أحمد ندا
ليستر سيتي: الملحمة في تجليها الكروي الأخير
"أنتِ جميلة كهدف في الدقيقة 90"
يخرج أحد المشجعين من إحدى مباريات الدوري الإيطالي منتشيًا بفوز اللحظات الأخيرة، الأدرينالين يتلاعب بالأعصاب ودقات القلب، وشاح النادي ملتف حول العنق، العيون كلها باتجاه الكرة، والقلوب عند المرمى الخالي على أمل باهتزاز أخير، انتظار المعجزة قبل نهاية الـ90 دقيقة. ثم تحدث المعجزة لتحول كل السكون إلى انفجار هادر بالصياح والهتافات، الأدرينالين يسلم قياد الجسد إلى السيروتونين. آلاف الأغراب يتحولون إلى رفاق لحظة السعادة المخطوفة قبل صفارة النهاية. وحده العاشق من يعرف معنى الترقب ثم الفرج، اهتزاز الشباك في الدقيقة التسعين -وما بعدها- هي الموعد قبل انقضائه، الوفاء قبل الفوات. يمكن تخيل هذا العاشق وحده الذي يتذكر جميلته بعد المباراة وما زالت لحظات النشوة تحركه. "أورجازم" يعرفه محبو الكرة المخلصون، العاشقون البدائيون، أهل المحبة الخالصة، والجمال الخالص.
***
في كرة القدم الأوروبية الحديثة، يبدو أن كل شيء معد سلفًا، آخر عشر سنوات في تاريخ الكرة محصور بين عدة أندية تعد على أصابع اليدين لا تخرج البطولات من دواليبها، تُضخ فيها مئات الملايين من جيوب تايكونات الأعمال الذين يستثمرون الهوس العالمي بالكرة.
يقفز الملياردير الروسي أبراموفيتش على نادي لندن تشيلسي، بعد أن أعجبته اللعبة. يحكي التايكون الروسي أنه كان يشاهد مباراة في الدوري بين ناديي ليفربول وتشيلسي وقرر أن يشتري النادي الفائز، وكانت الملايين من حظ النادي الأزرق. بعد صعود تشيلسي وإضفاء لمعة الملايين على قميصه ومنافسته على الدوري وحصوله عليه. تحولت أنظار خزانات المليارات الخليجية إلى الدوري الإنجليزي، لينضم نادي مانشستر سيتي إلى القائمة. مانشستر يونايتد يعاني من "فقدان هويته" بعد اعتزال مدربه الأسطوري أليكس فيرجسون.
حتى العام الماضي، بدا لقب الدوري الإنجليزي يتحرك نحو الجيب الأكثر انتفاخًا، لمعة الدوري التي شهدناها في التسعينيات وبدايات الألفية تخبو قليلا تحت أطنان اليوروهات التي تصرف على لاعبين نجوم، يملكون عقود رعاية إعلانية قبل مواهب كبيرة، الأرقام المتداولة مخيفة، اللعبة تأتي تاليًا في بورصة الرياضة الأكثر شعبية عالميًّا.
الأموال لا تفهم الأحلام، ولا تعنيها الانتماءات الملحمية، التعصب في أكثر أشكاله بدائية لمهاويس كرة القدم، المدرجات هي الملاذ الأخير للتخلص من أطنان الحضارة التي تثقل كاهل الإنسانية، الصيحات والصراخ الهستيري والسباب والشجارات، مكانها -ووقتها- الوحيد المسموح به هو التسعون دقيقة، البقية الباقية من همجية "الكولوسيوم" دون قتلى أو دماء.
لكن الدوري الإنجليزي هذا العام حمل أرواحًا جديدة: يورجين كلوب الألماني "العادي" -كما أطلق على نفسه- يجلس على دكة الفريق الأحمر، الذي شهد نهاية ملحمية للقب كان قريبًا لولا "عثرة" من قائده جيرارد، ما زال يحمل مرارتها حتى الآن، اليوم ليفربول مع المدرب الذي استطاع أن يشاغب في الدوري الألماني أمام تنينه بايرن ميونخ، ويريد أن يعيد التجربة مرة أخرى مع الفريق الأعلى شعبية في المملكة المتحدة.
مورينيو حاصد اللقب الأخير مع تشيلسي يتعثر، يقف على سور من الأموال ولا يقدر أن يقدم جديدًا، وهو الحاصل على اللقب -بشق الأنفس- العام الماضي، هزيمة تلو أخرى ثم يختفي من الصورة تمامًا. فان خال ما زال تائهًا مع الشياطين الحمر ولا يعرف أين موقع قدمه. آرسين فينجر وقد ارتضى أن يكون في المركز الدافئ بعيدًا عن المنافسة، حتى مع اقترابها هذا العام.
وسط المرشحين المحتملين، يأتي "قادم من الخلف" بتعبير حمادة إمام، ليقول كلمة جديدة، لم يسمعها الدوري الإنجليزي منذ عام 1995، "ليستر سيتي" الصاعد حديثًا إلى الدوري الممتاز، لا تبدو خطواته في الدوري كمن يتحسس طريقه للمرة الأولى. في البداية لم يهتم أحد بهذا الفريق، وعادة لا يهتم أحد بالصاعدين حديثًا، الدماء الجديدة يلزمها بعض الوقت كي يقبلها الجسم، لكن هذه الدماء الجديدة مشاغبة، يقول المتابعون "الفريق ليس جيدًا لكن الكبار سيئون للغاية".
كلاوديو رانييري الإيطالي القادم "مجروحًا" من منتخب اليونان، يعود إلى الدوري الإنجليزي إلى الفريق الذي بالكاد يتلمس خطواته في البريميرليج، يعود بعد 12 عامًا من تدريبه تشيلسي قبل أن يشتريه رومان أبراموفيتش. رانييري يعود بطموح أن يجترح جديدًا في الدوري الأشرس، يبحث عن ملحمته الخاصة وسط لاعبين كل منهم في حد ذاته ملحمة، دراما قد تلتفت إليها السينما يومًا ما: فاردي ومحرز على وجه التحديد، المنبوذ والأجنبي، الهداف وصانع اللعب. الحكايتان الأكثر تردادًا هذه الأيام.
4 نقاط تفصل ليستر سيتي عن لقب الدوري، محبو الكرة يشجعون القادم من المجهول لا لشيء إلا لاكتمال الملحمة في تجليها الأخير. حكاية قريبة الشبه لما حدث مع بلاكبيرن عام 1995 حين حصد لقب الدوري مع "الملك كيني" أو كينيث دالجليش أسطورة ليفربول.
فلتذهب كل حسابات العقل إلى الجحيم، مستمتعين بالتماهي مع الملحمة، رحلة الصعود من القاع إلى لقب الدوري، لتكن فكرة فوز ليستر مؤامرة، لتكن حسبة مالية، لتكن فكرة تسويقية، لكن كل ذلك لم يمنعنا من الصياح حتى تلتهب الحلوق سعادة بتحويل الفانتازيا إلى فعل ممكن. الشيء الذي يعيد لكرة القدم شيئًا من رونقها وسحرها الأخاذ خارج أطنان الأموال وعقود الرعاية والإعلانات وكل هذا البيزنيس الذي يحجم الخيال في اللعبة.
لتكن لحظة مواتية لنا، نتذكرها لاحقًا ونستعيد طعمها في أفواهنا، مثلما كانت لحظة فوز "مارادونا" مع نابولي بالدوري، مثل فوز اليونان بأمم أوروبا، مثل صعود غانا في ربع النهائي في كأس العام. اللحظات التي تتحدى قوانين العرف والتاريخ والمنطق، اللحظات التي لأجلها نحب كرة القدم.
يصح للعاشق أن يرى في حبيبته جمالًا يضاهي هدفًا في الدقيقة 90، ويصح لنا أن نرى كل الجمال في حصد ليستر سيتي للدوري، فوق أموال تشيلسي ومانشستر سيتي.
إنها اللعبة يا سادة، ما يصح معها أن نقول "أنت جميلة كحصول ليستر سيتي على الدوري".