نصف الدنيا
نوال مصطفى
زمن للحب
لماذا تركتني واخترتِ الحياة مع «فاتن»؟ هل هي رغبة منكِ في إيلامي؟ لماذا يا «سارة» أعلنتِ الحرب عليَّ، وترفضين حتى محادثتي في الهاتف أو زيارتي من حين لآخر؟ لماذا؟

هل تتقبلين الانقلاب الذي أحدثه أبوكِ في حياتنا، بينما ترفضين رد الفعل الطبيعي من جانبي؟ أم أنكِ - أيتها الفتاة العصرية التكنولوجية - تعيشين بشخصيتين متناقضتين.. إحداهما تتابع الإنترنت، وتسمع محمد منير والشاب خالد ومايكل جاكسون، والأخرى تفكر بطريقة «سي السيد» وتفرض على زوجته «أمينة» أن ترضى وترضخ لكل طلبات ورغبات ونزوات زوجها؟ لماذا يا عم «نجيب» زرعت هذه الشخصية في وجدان المصريين، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراثهم؟ أم أنك كنت ترصد في ثلاثيتك الشهيرة «قصر الشوق» و»السكرية» و»بين القصرين» ما هو كائن بالفعل، وما يحكم حياتنا من ميراث اجتماعي قديم ومتوارث؟

هل تعتنقين فكر «سي السيد؟ في ثلاثية نجيب محفوظ يا «سارة»، وتقبلين أن أبقى في حياة أبيكِ مع ضُرَّة؟ هل تقبلين أنتِ ذلك عندما تتزوجين، وتبنين مع زوجك حياةً زوجيةً هادئةً، ثمرتها شابان جميلان؟ هل تقبلين أن يأتي بعد أكثر من ربع قرن على زواجكما، ويقول لكِ بطريقة غير مباشرة: شكرًا.. لقد أديتِ رسالتك على الوجه الأكمل.. والآن عليكِ أن تتقاعدي كإنسانة وامرأة وزوجة، وأن تكتفي بممارسة دور الأم المقهورة المهزومة التي دهسها قطار الزمن؟

لماذا تتحاملين عليَّ يا ابنتي الحبيبة، رغم أنكِ تدركين كل ذلك، وأعلم أنك تحبينني، وكيف لا وأنا أحبك كل هذا الحب؟ هل أغضبكِ أنني رحلت عن بيتنا، أقصد بيت «أحمد»؟ هل ظننتِ أن هذا القرار ضمنيًّا يعني أنني قد تخليت عنكِ وعن «سيف»؟

كيف تفكرين هكذا يا «سارة»؟ إنكما جزء مني لا يمكن فصله عن حياتي.. كالقلب في الجسد.. هل سمعتِ أن إنسانًا ظل حيًّا بعد أن انتزعوا منه قلبه؟ تخيلي هذا الخيال العلمي أو الفانتازيا واضحكي.. إنسان بلا قلب.. بلا ذاكرة..

لماذا قسوتِ عليَّ إلى هذا الحد؟ إن حياتي الآن يا حبيبتي هي الحياة التي كنت أحلم بها منذ كنت شابةً صغيرةً مثلك.. كنت أحلم أن أعيش طبيعتي.. أطلق لأفكاري العنان، وأحرِّر ذاتي من عشرات القيود التي تكبلني.. عشت حياةً مثاليةً مع «أحمد» من وجهة نظر الآخرين، لكنني لم أكن سعيدة.. كنت أؤدي الدور بكل إخلاص والتزامٍ وأمانةٍ.. دور الزوجة المحترمة المثقفة، والأم الحريصة على تربية أولادها كما ينبغي، وربما أكثر، لكنَّني لم أشعر يومًا بأن الحاجز الزجاجي غير المرئي بيني وبين «أحمد» قد تهاوى كان دائمًا هناك يمنع التفاعل الطبيعي.. الكيمياء بيننا كانت معطَّلة في معظم أوقات حياتنا.

ربما أغضبتك علاقتي بـ»طارق».. أقرأ ذلك في عينيكِ المليئتين بالغيرة، طوال عمرك تغارين مني وتغارين عليَّ، لكنني يا حبيبتي إنسانة من حقها أن تعيش.. أن تحب وتُحَب.. ليست هناك سن للتقاعد في الحب، هناك من يحب وهو في الستين أو السبعين، أو حتى فى الثمانين.. لا تضحكي ولا تندهشي.. اقرئي رواية ماركيز جابريل جارثيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا».. تلك الرواية التي جسدت قصة حب فريدة امتدت بين انقطاع ووصال على مدى عشرات السنين، وفي النهاية يلتقي الحبيبان بعد أن تجاوز كلاهما الثمانين عامًا، وبعد أكثر من نصف القرن من الحب المترنِّح.

فالحب بين «فلورينتينو أريثا» و»فيرمينا داثا» ولد في شبابهما المبكر، لكن الظروف عاندته، ويبدو أنه ظل كائنًا كامنًا ينمو خفيًّا في ذاكرتيهما، حتى حانت لحظة الانفجار الكبرى، واللقاء الجامح الحقيقي من دم ولحم، أما الغريب فهو أن ذلك اللقاء الذي حدث فوق ظهر يخت في عرض البحر، ومارسا خلاله الحب لأول مرة في حياتهما، كان بين عجوزين أحالهما حبهما العبقري إلى كائنيْن محلِّقيْن، متجاهليْن عوامل الزمن، وتهالك الأعضاء البشرية، وكأن هذا الحب هو إكسير الحياة الذي يَضُخُّ في الشرايين، فتنتفخ بالحياة، وتتفجَّر بالمشاعر السحرية.

***

كوني عادلةٌ معي يا ابنتي الحبيبة إذن !.. كوني منصفةً يا «سارة» مع أمك التي أحبتك منذ كنتِ صورةً مرسومةً في خيالها.. تقبلي الحياة كما هي، ولا تبحثي عن الكمال، فالكمال لله وحده، ونحن بشر نحسُّ ونخطئ.. نحبُّ ونكره.

هل تستكثرين عليَّ أن أعيش قصة حب حقيقية؟ هل تعتقدين أن المشاعر الإنسانية لها عُمْر، وأنني - وأنا في الخمسين من عمري - من الصعب أن أحب؟ ستصلين يومًا إلى ذلك المنعطف في حياتك، وستدركين وقتها كم يحتاج الإنسان إلى الحب في كل زمان ومكان.

كنت أقرأ في عينيك منذ سنوات عديدة تساؤلات مدهشة مثل: لماذا تتزينين يا أمي؟ ألن تكُفِّي عن محاولة الظهور في صورة امرأة فاتنة شابة؟ كنت أقرأ ذلك في عينيكِ وأحزن أحيانًا، وأقدِّر مشاعركِ أحيانًا أخرى، فأنتِ تعتقدين - ويا له من اعتقاد - أن المرأة يجب أن تتوقف عن الاهتمام بنفسها وأناقتها ورشاقتها عندما تكبر، وتصبح أمًّا لشاب وشابة، مثلكِ أنتِ وأخيكِ.

منتهى الظلم يا قرة العين ومنتهى الحماقة.. المرأة إنسان، والإنسان من حقِّه أن يُرضِي نفسه أولاً حتى يستطيع أن يُعطي الآخرين.. فاقد الشىء لا يعطيه يا حبيبتي.. ومشاعر امرأة مهزومة.. مكسورة الجناح، لا تجعل الأم مصدرًا للقوة أو منبعًا للإلهام والابتكار في حياة أبنائها.

الأم القوية الملهِمة ينبغي أن تكون إنسانةً متحققةً تقدِّر نفسها وتحبها، وتعتزُّ بما وهبها الله من جمال الشكل والعقل.. اهتمامي بنفسي يا «سارة» ليس ضدك، ولسنا في مجال تنافس.. أعرف أن أفكار الصغيرات تتجه إلى ذلك.. أنا كنت - يومًا - مثلك أغار من أمي عندما أراها جميلةً ومثيرةً، لكنني عندما كبرت أدركت أن هذا من حقها ومن حق كل إنسانة، حتى لو كانت أمًّا لعشرة أبناء..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف