عبد الفتاح ماضى
مغالطة حروب العرب والمسلمين
ظهرت في السنوات الأخيرة كتابات غربية كثيرة تتحدث عن ما تسميه “حروب المسلمين والعرب”، يبذل معظم كتابها جهدهم للربط بين ما يحدث لدينا من صراعات وحروب وبين الإسلام والثقافة العربية من حهة، وللترويج بأن تاريخ العرب والمسلمين كله هو تاريخ الصراعات الدموية، وبأن الصراع بين السنة والشيعة صراع تاريخي ممتد ولا يتوقف من جهة أخرى.
هناك بالطبع في تاريخنا العربي والإسلامي مراحل صراع وحروب، فهذه سنة كونية تجري علينا كما على غيرنا من الأمم والشعوب، والدين الإسلامي مثله مثل الأديان الأخرى يمكن الإستناد إليه لتعزيز السلام أو يمكن استغلاله لإشعال الخلافات والصراعات. وهناك أيضا عوامل تعليمية وثقافية داخلية تساعد في بناء العقليات الإقصائية والمغلقة لكن لا يجب معالجة هذه العوامل (أو تصور أنه يمكن معالجتها) بمعزل عن معالجة جذور ومسببات الصراعات التي تشهدها المنطقة.
إن الربط بين الصراعات الحالية وبين الدين والثقافة ربط لا أساس له، كما أن النظر إلى تاريخ المسلمين وكأنه تاريخ الصراع بين الشيعة والسنة أو تاريخ الحروب الدموية فأمر غير صحيح ولا هدف له إلا تعميق مشكلات المنطقة التي سببها الأساسي في الواقع هو نمط الحكم القائم في الدويلات العربية التي تركها المستعمر الغربي في المنطقة بعد أن رسم حدودها على هواه.
فيما يلي ملاحظات ثلاثة سريعة يتم تجاهلها في هذا السياق:
(1)
الحروب الحالية التي يتورط فيها العرب ليست نتاج عوامل دينية أو ثقافية، ولا علاقة لها بالإسلام وقيمه، وذلك برغم استخدام أطراف معينة الإسلام وخطابه.
إن الدين يحرك الكثير من الانتهاكات ضد المسلمين وليس على يد المسلمين، وتكفي الإشارة هنا إلى فلسطين وما يتم فيها منذ أكثر من قرن، وإلى استهداف المسلمين في بورما والصين والهند وأفريقيا الوسطى وفي العديد من جمهوريات الإتحاد السوفيتي سابقا. كما أن الدين استخدم من قبل الطغاة العرب بعد تأميمه وتوظيفه لصالح مشروعهم القائم على الإستبداد في الداخل والتبعية للخارج مما حَرَمَ المنطقة من وجود رؤى إسلامية حقيقية.
ومن جهة اخرى يثبت تاريخ القرنين السابقين على الأقل أن أوروبا وأميركا كانتا أيضا ساحة للحروب الأهلية والثورات وانتهاكات حقوق الإنسان. وحسب بعض التقديرات، فقد لقى أكثر من ستمائة ألف إنسان حتفهم في الحرب الأهلية الأميركية، وأكثر من مليون خلال الثورة الفرنسية، وسبعة ملايين في الثورة البلشفية، وما بين 15-18 مليونا في الحرب العالمية الأولى، وستون إلى ثمانين مليونا في الحرب العالمية الثانية، وأربعون مليونا في الثورة الصينية الماوية (1947-1957). وهذه الحروب كلها لم يكن المسلمون ولا العرب أطرافا فيها.
وفي المقابل، عاشت شعوب المنطقة لقرون طويلة برابط إسلامي قوي، إذ مثل الإسلام -كإطار حضاري- الوعاء الذي أَخرَجَ العرب وشعوب المنطقة من محاور القبيلة واللون والعرق والمكانة الاجتماعية إلى رحاب الانتماء الثقافي والحضاري. وهذا الانتماء العربي الإسلامي هو الذي شيد حضارة زاهرة، امتدت من الصين إلى الأندلس، وقدمت للبشرية نماذج ساطعة من التعايش بين شعوب تميزت بتنوع عنصرها البشري، وتعدد لغاتها ولهجاتها، واختلاف تقاليدها وثقافاتها، فضلا عن الكثير من المنجزات العلمية والفكرية والأدبية.
(2)
من الأهمية النظر إلى الحروب المشتعلة الآن في بلاد المسلمين في سياق دولي أوسع.
فمعظم هذه الحروب ليست نتيجة تفاعلات داخلية صرفة، ولها أطراف غير إسلامية (مسيحية أو يهودية أو بوذية أوكونفوشيوسية)، كما أن كل السلاح تقريبا يأتي من الدول الكبرى.
وتجارة السلاح تمثل مصالح كبرى، فحسب بعض التقديرات يشهد كل عام مبيعات سلاح بمبالغ تقدر من 45 إلى 60 مليار دولار، منها نحو 75% توجه لدول العالم النامي، وتستحوذ الدول الخمس الدائمة بمجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا وإيطاليا على نحو 85% من هذه المبيعات بين 2004-2011.
وفي العقد الأخير تصاعدت مبيعات السلاح إلى دول الخليج بشكل لا مثيل لها، ومنذ 2013 عقد النظام في مصر صفقات سلاح بأكثر من 12 مليار دولار حسب بعد التقديرات برغم المشكلات الاقتصادية الحادة التي تمر بها البلاد.
فهل يتم إعداد المنطقة لحروب مدمرة ولا سيما بعد بناء محورين مذهبيين في المنطقة، سني وشيعي، وبعد إدخال المنطقة في صراعات عدمية ضد الحرب على ما يسمى الإرهاب بدلا من معالجة مسببات وجذور الإرهاب والتي تتصل أساسا بالمظالم الخارجية والداخلية التي تعاني منها الشعوب العربية منذ عقود؟
كما أن هناك علاقة عضوية قوية تربط الدول الكبرى بأنظمة وحكومات المنطقة العربية، ومن الواضح تماما أن الديمقراطية – التي تقدم بديلا سلميا للتداول على السلطة وحل الصراعات السياسية بطرق سلمية – ليست مصلحة غربية في هذه المنطقة منذ رحيل المستعمر وحتى اليوم.
وحسب الباحث الأمريكي جايسون براونلي، فإن مصر صارت حليفا استراتيجيا لأمريكا، منذ توقيع معاهدة السلام، وأن دعم أمريكا لحكام مصر تركز علي ثلاثة مجالات أساسية، هي الدفاع الوطني، واستقرار الاقتصاد، والقمع الداخلي، وأن هدف المساعدات الأمريكية التي تقدر بنحو 60 مليار دولار هدف غير معلن وهو تحقيق مصالح أمريكا بالمنطقة، المتمثلة في الحفاظ علي أمن “إسرائيل”، وتقوية العلاقات مع منتجي البترول بالخليج، ومكافحة “الإرهاب الإسلامي”، وعرقلة قيام الديمقراطية. كما لخص السفير الأميركي الأسبق في مصر، ديفيد وولش، هذه المعادلة قبل ثورة 25 يناير بقوله “أن أميركا تعتبر مصر صديقا.. وأميركا لا تضع ضغوطا على أصدقائها”.
(3)
إن الحكومات القائمة في المنطقة والمدعومة من الغرب حكومات مستبدة، مثلها مثل النظم الفردية الأخرى، حيث الانقسام الأبرز في النظام ليس بين الإصلاحيين والمحافظين أو بين النظام والمعارضة، وإنما هو بين من هم داخل دائرة الحكم (بمنافعها المادية والمعنوية أي رأس السلطة ومساعديه والمقربين والمنتفعين منه) وبين من هم خارج تلك الدائرة، أي من استبعدهم النظام من كافة التيارات. والصراع بين الخصمين صراع وجودي، والمباراة مباراة صفرية، أو هكذا يريده أصحاب المصلحة.
وتغيير هذا النمط من أنظمة الحكم، لا يكون بالإصلاح، وإنما غالبا ما تنتهي أعمار هذه الأنظمة عن طريق الانهيار، وفي هذه الحالة إما أن يحل خصوم النظام القديم في السلطة ويقيموا نظاما تسلطيا جديدا، وإما أن ينهار النظام كلية وتنتشر الفوضى وتدخل البلاد في حرب أهلية. وقد حدث هذان المساران في كثير من دول افريقيا وبعض الدول الأسيوية واللاتينية، وحدث مؤخرا في العالم العربي بعد إجهاض ثورات 2011.
لقد مثلت الثورات العربية السلمية في 2011 فرصة كبيرة لتغيير هذا النمط من الحكم وتصحيح كافة المشكلات المصاحبة له إلا أن خصوم هذه الثورات في الداخل والخارج أجهضت تلك الثورات وحولت نضال الشعوب السلمي من أجل الكرامة والحرية والعدالة إلى صراعات عدمية حول الهوية أو حروب ضد الإرهاب.
قد تؤجل الثورات المضادة هذا النضال لكنها لن توقفه وستستمر الشعوب العربية في نضالها حتى تنتزع حرياتها وتبني حكوماتها الوطنية التي توقف كل الصراعات العدمية، وتحافظ على هويتها الجامعة ومصالحها الوطنية.