جمال الجمل
أزمة السيسي ونباح العباسيين
(1)
قبل أيام تساءلت عن أسباب عدم حضور الرئيس السيسي للندوة التثقيفية للقوات المسلحة، التي تزامنت مع احتفالات عيد تحرير سيناء، وكتبت تحليلاً سريعاً على “فيس بوك” لا يتجاوز 150 كلمة، قلت فيه إن «غياب الرئيس عن أى احتفال رسمى أمر وارد لأسباب متعددة، منها المرض لا قدر الله، أو السفر أو الانشغال ببرامج أخرى، لكن مهما كانت أسباب الغياب، هذا لا يمنع أن ينوب عنه أحد لإلقاء كلمته، وكما قالت المصادر ونشرت الصحف، كان هناك خطاب معد بالفعل، فأين نص الخطاب؟ ولماذا لم تتم قراءته فى الاحتفال؟ ولماذا الغياب المعنوى المتمثل فى كلمات من نوعية: بتوجيهات سيادة الرئيس.. وبفضل حكمة السيد الرئيس.. ونتوجه إلى السيد الرئيس.. ونشكر السيد الرئيس.. لقد ورد الاسم فى تقديم بروتوكولى أقل من عادى، ثم تحول الكلام إلى الشعب والوطن فى العموم».
وفى مرواغة تحليلية سريعة أضفت: «قد تنطلق هذه التخمينات من عقلية المؤامرة، ومن مبدأ الشك، لكن مَنْ فرض علينا غموض أجواء المؤامرة، ومَنْ زرع فى نفوسنا الشك؟ من حقنا أن نخمن وأن نشك، حتى نطمئن، أو نتأكد من الحقيقة ونتخلص من الشك… نحن لا نتآمر… لكننا ندقق ونسأل ونتحسس، وطالما لا توجد بيانات قاطعة ومعلومات متداولة، سنبحث عنها ونناقشها بأى طريقة تتاح لنا».
(2)
تعبير “المراوغة التحليلية” في الفقرة السابقة ليس من عندي، لكنه تعبير استخدمه عباسي صغير، بلغ الشوق مبلغه، فكتب مقالاً من 1950 كلمة ليرد على “بوست” اعتبره مجرد “شائعة”، بل واعتبرنا على سبيل التحليل السايكولوجي “نحن الذين نصنع الشائعة.. ثم نصدقها”.. كما جاء في عنوانه.
(3)
لكن هل نحن فعلاً الذين صنعنا الشائعة؟
أو بمراوغة أخرى: هل النظام بخير، و«الأمر عادى، والرئيس لم يكن سيحضر من الأساس، ونحن الذين نتعامل مع الأمر بحساسية؟».
(4)
كالعادة، لن أقدم إجابة، سأكتفي بتحليلاتي المراوغة، وعرض الأمور العادية التي تأتي على لسانكم من العباس الكبير إلى أنفار العباسيين العاملين والمنتسبين، فالرئيس المطمئن، ظهر مهموماً ومقتضباً ومرتبكاً في خطبة عيد القضاء، و
– أستأذن حضراتكم في الوقوف دقيقة حداد. (هسة) // على أرواح شهدائنا من القوات المسلحة. (هسة) // ومن الشرطة. ومن القوضا (استدراك) .. أو من القضا..!
وهمس القاضي على المنصة للرئيس: والشعب.
لكن الرئيس لم يسمع، أو سمع ولم تكن لديه رغبة لذكر شهداء الشعب؟!
وفي خطابه الرسمي بمناسبة تحرير سيناء، ظهر بنفس الوجه الجامد الذي يكشف عن نفس قلقة مهمومة، وفي نهاية خطابه خصص فقرة كاملة، للحديث عن الخطر الذي يهدد استقرار وأمن البلد، مؤكداً أنه لن يسمح بذلك.
(5)
هناك أزمة فعلاً، وهناك تهديد، هذا ما يخبرنا به الرئيس، وما يحذر منه العباسيون، وما يتداوله الناس على اختلاف توزيعهم السياسي والنفسي، كل بطريقته، لذلك من حقي أن ألاحظ غياب الرئيس عن ندوة كان حريصا على حضورها، ووسط قوة داعمة لا ينسى ذكرها وتحيتها في أي مناسبة، بل أن العباسي المشتاق كتب بنفسه في مقاله: لم يكن صاحب التحليل السريع وحده، هو من انتبه إلى أن الرئيس لم يحضر الندوة التثقيفية (..) فقد تساءل عدد من الحاضرين عن سبب غياب الرئيس، وتطور الأمر، عندما اقترح أحدهم أن يشير وزير الدفاع، الفريق أول صدقى صبحى، إلى سبب غياب الرئيس عن الندوة، حتى لا يتم تفسير الأمر بشكل سيئ، لكن أحد المسئولين عن الندوة، قال: «لا داعى لذلك على الإطلاق، فالأمر عادى، والرئيس لم يكن سيحضر من الأساس»، واضاف العباسي: عندما تلقيت الدعوة لحضور الندوة، لم يتحدث أحد معى عن حضور الرئيس من الأساس (…) وكان معروفًا أن الرئيس يستعد لاستقبال ولى عهد أبوظبى، ومقابلات أخرى (..) وعندما وصلنا مسرح الجلاء، لم يحدثنا أحد عن حضور الرئيس أو مشاركته، ولم يكن هناك مقعد مخصص للرئيس (..) وبعد الجلسة الأولى تساءل البعض: هل سيشارك الرئيس؟ اعتقد البعض أنه سيحضر فى الجلسة الثانية ليلقى كلمة فى نهاية الندوة.
(6)
يكتب العباسي أن البعض داخل الندوة تساءل، ودخلوا في حالة من الأخذ والرد عن أسباب غياب الرئيس، لكنه يكتب أيضاً أن الأمر عادي، وغياب الرئيس معروف منذ اللحظة الأولى!.. ويعتقد أن الحماس الذى قيلت به كلمة وزير الدفاع، وبعض العبارات التى وردت بها، هى التى جعلت كثيرين يعتقدون أن غياب الرئيس عن الندوة لا بد أن يكون له سبب!، وهناك من أراد أن يأخذ من هذا الكلام دليلًا على أن هناك خلافًا بين القائدين، وأن حماس صدقى صبحى وهو يتحدث عن الشعب، ورفض الابتزاز والإملاءات والمغريات موجه للرئيس نفسه!، ويستشهد العباسي بما حدث في لقاء الأسرة المصرية بقصر الاتحادية، حيث التقط البعض صورًا لوزير الدفاع وهو يجلس إلى جوار السيسى، وحاولوا أن يستنطقوها، ليقولوا إن هناك خلافًا، وأن الجيش يرفض الاتفاقية (العباسي يسمي التنازل عن تيران “الاتفاقية”)، وانتقل الكاتب إلى تفنيد الشائعات التي استند أصحابها إلى تقرير نشره مركز الأبحاث الأمريكى «سترانفورد» (المركز اسمه ستراتفور وقد كتبه صحيحاً في فقرة السياق المنقولة من النت بعد أن ورد مرتين خطأ في نفس المقال) فيقول: “تم وأد هذا الخبر فى مهده، فلم يلتفت له أحد”.
(7)
* لماذا سقطت شائعة ستراتفور؟
– يقول العباسي: لأن الخبر نفسه مفبرك!!، فلا يوجد دليل واحد على أن المركز الاستخباراتي نشر خبرًا بهذا الشكل وهذه التفاصيل!!، وكل ما فى الأمر أن بعض المواقع المعادية للنظام المصرى هى التى اجتهدت فى نسج خبر بهذا الشكل فى إطار الحرب النفسية التى تشنها على السيسى والذين معه، للوقيعة بين الرئيس والجيش، وإظهار أن هناك خلافات بينهما.
(8)
لاحظوا أن الكاتب قيادة في مؤسسة صحفية، ويعمل في تدريس الإعلام لصحفيي المستقبل، وينفي تقريراً لا يزال موجودا على الموقع الرسمي لواحد من أهم المراكز البحثية الاستخباراتية التي تعتمد على مصادر مسؤولة تسمح له بتحليل الأوضاع في أكثر من 175 بلداً حول العالم، وهذا يفسر لماذا أخطأ الكاتب العباسي في اسم المركز، لأنه لم يكلف نفسه بدخول الموقع أو قراءة التقرير المنشور بعنوان “بناء جسور بين مصر والسعودية”، واكتفى بأن كل ما يعترض عليه الأسياد، فهو مجرد “فبركة” لا اصل لها، و”شائعات” تروجها “قوى الشر”، بل عندما طالب بعض زملاؤه من الإعلاميين الذين حضروا الندوة، بتوضيح أو إصدار بيان يوضح أسباب غياب الرئيس، وصفهم العباسي بأنهم “من أصحاب القلب الضعيف”، لكن القائمين على الأمور، قرروا ألا يتعاملوا مع الأمر بجدية!!، وحسنا فعلوا!!، فليس معقولًا أن نخضع لابتزاز أصحاب الشائعات التى يصنعونها على أعينهم، ونمنحهم فرصة أن يفرضوا علينا ما يقولونه، رغم معرفتنا المؤكدة أنهم يخططون لزرع الشقاق والخلاف!!.
(9)
لم أكن أمنح واحدا من العباسيين ابداً فرصة الرد، أو الاهتمام بما يكتب، وقد قلت ذلك للصديق الذي أرسل لي المقال، لكنني وجدت في هذه اللغة، وهذه الطريقة في تصور المشكلات حالة نموذجية للتعرف على جانب من محنة النظام الغبي، الذي يتحكم في مصائرنا، والذي يفضل عدم التعامل معنا بجدية، والذي يستنكف التوضيح وإصدار البيانات، والذي يعتبر أن تدخلنا في شؤون بلادنا ليس إلا تطفل كريه ورذالة غير مستحبة، وأن مناقشتنا لقضايانا الوطنية تصنيع للشائعات، لهذا اتخذت قراري بالكتابة ليس عن شخص، ولكن عن نظام هذا حاله، وهذا مستواه، وهذا تفكيره الضحل، ولهذا يسعدني أن أستثمر الفرصة لأعيد صياغة تحليلي السريع بوضوح أكثر.
(10)
هناك أزمة محتدمة بالفعل داخل النظام القائم، ونحن لا نعرف حجمها، ولا حقيقة التفاصيل التي تدور، لكننا نرى مظاهرها، ونرى انعكاساتها في الخطاب السياسي، وفي الحراك الميداني، وفي الأفق الاستراتيجي، وأوضح أن الأزمات والصراعات داخل أي نظام ليست جرائم يجب التنصل منها، فهي أمر صحي، ودليل تفاعل، فأي مطبخ سياسي بلا صراع، يشبه مطبخ منزلي بلا نار للطهي، المهم كيف ندير هذا الصراع؟، وفي أي اتجاه، والمنطقي أننا في لحظة خلاف بين الثوابت الاستراتيجية للدولة، وبين المتغيرات السياسية التي تفرضها أزمات يشعر بها الرئيس بطريقة فردية، وصلت إلى شبهة تهميش لقوى يصعب عليه تهميشها، كما فعل مع القوى السياسية، ومع الشباب، ومع المجتمع المدني كله، أما كيف يمضي هذا المأزق؟، وإلى أي نتيجة يأوول، فهذا أمر مخيف لكل الأطراف، ولا يعنيني هنا سؤال: من يخلف من في قمة الهرم السلطوي؟، لأنني لن أظل “حرفوشاً” ولا “ألضوشاً” يهتف للفتوة أو للأمير الذي يكسب صراعه مع فتوة، أو أمير آخر، يعنيني أكثر الاهتمام بصنع إرادة شعبية وسط هذه المعادلة المختلة، لابد أن يولد الشعب بالمفهوم السياسي الذي يجبر أي حاكم على تقدير رأي الشعب، وأن يلتزم بالعقد الاجتماعي والسياسي الذي تم التوافق عليه، وإلا سنظل مكاننا مجرد رعية يحكها “النبوت” قبل شخص الفتوة، ونظل ننتقل كالإرث أو كالعبيد من بندقية إلى بندقية.
(11)
أزمة النظام إذن ليست “فزاعة” تمنعني من التظاهر، لكنني لا أتظاهر بحثا عن سلطة، ولا إسقاطاً لهذا لصالح ذاك، ولن أكون أداة تلعب بها القوى القادرة، سأتظاهر كصوت للشعب، و من أجل بناء إرادة شعبية، تستطيع أن تفرض رأيها ومصالحها على أي رئيس أياً كان اسمه، وتستطيع أن تلزم أي سلطة باحترام الدستور وثوابت الوطن حتى لا يتلاعب بنا من يقدر… ومع إدراكنا أن الشعب ليس سلطة، يجب أن ندرك أيضا أننا مصدر السلطات كل السلطات.
……………………………………………………..
#تيران_لا