“هل شاهدت فيلم (هيبتا)؟”، ألقى سؤاله عليّ ولم ينتظر منّي إجابة وبدأ في سرد أحداث ومشاهد الفيلم بالتفصيل الدقيق ثم انتقل للحديث عن الموسيقى التصويرية وتقنيات التصوير ومشاكل المونتاج كما رآها، ثم استرسل للحديث عن تفاعل الجمهور في قاعة العرض السينمائي وتكلّم قليلاً عن فئاتهم العمريّة التي تراوحت بين 18 و22 عاماً كحد أقصى في تقديره.
كنت أنصت إليه كل الإنصات وأنظر إليه بنظرتي التي قال عنها أصدقائي أنها حادة ولكن في داخلي دار حوار آخر عن اهتمامه المبالغ فيه بهذا البحث التسويقي الذي أجراه عن الفيلم، وعن مدى دقّة وصفه لكافة التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالعمل الفني وقاعة عرضه وجمهوره والذي كاد يصل إلى أكلاتهم المفضّلة وألوان ملابسهم الداخلية.
في واقع الأمر كان الصراع الأكبر بين كل ما قاله وتعجّبي منه وبين قضيّة أخرى نعلمها جميعاً، قضيّة أثارت قلقي رغم إخفائي لها وتثير قلقه رغم انهماكه في حديث آخر، أراها في عينيه ويراها في عينيّ ونتبادل إخفائها سويّاً بينما نحن نتحدث عن فيلم سينمائي لم أشاهده، بينما ذهب هو ليشاهده كفرد “كوماندوز” في مهمة خاصة يستطلع من حوله قبل أن ينظر أمامه إلى شاشة العرض!
انهمكنا في إخفاء ما نريد إخفائه وطلبنا من “القهوجي” أن يحضر لنا الطاولة لنبدأ اللعب وليسألني “هل اشتريت السعف لتحتفل؟” فأجبته بأن أبي لم يترك عاماً واحداً منذ حضرت إلى الدنيا إلا ويأتي لنا مساء السبت السابق لأحد الشعانين “السعف” حاملاً الورد وسعف النخيل والسنابل المجدولة، وبينما نحن منهمكين في اللعب سألني عن قصة هذا اليوم فأخبرته بقصة عودة المسيح إلى أورشليم “القدس” بعد اغترابه طيلة سنوات عمره منذ أن غادرها إلى مصر هرباً من هيرودس الذي جَنّ جنونه حينما أخبروه بميلاد المسيح المُنتظَر حتّى ظَلّ يقتل في أطفال بيت لحم لعله يكون بينهم، بينما أنقذ الله المسيح وأمه بإرسالهما مع “يوسف النجّار” إلى مصر حيث الأمان من سيف هيرودس الذي سار فوق أعناق أطفال، وانتهى “طابق” الطاولة بفوزي بخمسة عشر نقطة.
بدأنا في رَصّ “الأواشيط” وبدأ في تحديه بأنه في طريقه إلى تعويض الخسارة وسحق رأسي، مبرراً خسارته بأنه كان منتبهاً لما أقول، وبمجرّد انهماكنا في اللعب مرة أخرى سألني عن فكرة شعور المسيح بالاغتراب وهو المُرسَل لكُل البشر وكافة بقاع الأرض فأجبته بأنني أجد في ذلك الأمر لفتة جميلة بأن يرتبط المسيح بالأرض التي وُلِدَ بها ويشعر بالحنين إليها بل ويبكيها ويبكي حالها قائلاً “أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المُرسَلين إليها، كَم مرّة أردت أن أجمع أولادِك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تُريدوا!”.
واستكملت حديثي بأن فكرة بكاء المسيح للأرض هي رسالة واضحة لمن يأخذهم التدين إلى مرحلة اللاانتماء سواء للوطن أو للأيدولوجية، وهنا لمع نفس الشيء في أعيننا مرّة أخرى وصمتنا وواصلنا اللعب.
سألني عن أسبوع الآلام الذي يبدأ باحتفالات أحد السعف فأخبرته بأن السعف هو ما استقبله به أهل موطنه حينما قدم كدليل على الترحيب والتبجيل، بينما خانه رفيقه وتلميذه “يهوذا” بقُبلة، وهنا تحدثنا عن اختلاف القصة بين صَلب المسيح وبين أن شُبِّه للقتلة أن يهوذا هو المسيح واتفقنا على أنه في كلتا الحالتين كانت هُناك خيانة، وكان هُناك حنين للوطن وحُبّ للإنسانيّة ورثاء للأرض، وهُنا لمعت أعيننا مجدداً بنفس الشيء ونظرنا حولنا وقررنا مغادرة المقهَى واستكملنا الحديث، عن الفيلم.