فى أيام لا تقل سوادا عن التي نمر بها الآن، تجمع عدد من النشطاء فى 25 مايو 2005، أمام بيت الأمة احتجاجا على التعديلات الدستورية، التى كان نظام مبارك بصدد تمريرها كخطوة على طريق مشروع التوريث.
كانت المرة الأولى التي ينسحب فيها الأمن ويترك مهمة تفريق المتظاهرين لـ«الشراشيح» ــ النسخة الأقدم لـ«المواطنين الشرفاء» ــ نزلت «خالتي فرنسا» ورفاقها من الميكروباصات على الرصيف المقابل للتظاهرة، وبعد إشارة من سيادة اللواء، عبر «الشراشيح» الشارع رافعين أعلام مصر وصور «المخلوع»، هاتفين «يا مبارك دوس دوس إحنا معاك من غير فلوس»، التحم الجمعان، وبدأت عمليات التحرش الجماعى بالنشطاء والصحفيين، والمراسلين الأجانب.
تفرقت المظاهرة بعد دقائق، ونال كل من شارك فيها نصيبه «صباع.. دراع.. رجل»، واستمرت المطاردات فى شوارع وسط البلد، حتى تجمع المتظاهرون أمام نقابة الصحفيين «الملاذ الآمن لكل من له حاجة» فى ذات الوقت، استدعى قادة الحزب الوطني، محمد الديب ومجدى علام ومحمد حنفي «كتائب البطجية»، وأعطوا إشارة الهجوم وتم الاعتدء على عدد كبير من الزملاء الصحفيين، ووقعت الزميلة نوال علي «رحمها الله» فمزقوا ملابسها واعتدوا عليها جنسيا فى شارع عبدالخالق ثروت.
«لم يحاولوا ضربي فقط، لكنهم كانوا يعتدون عليّ جنسيا، وكانوا يمزقون ملابسي بكل وضوح، وانتهى بي الأمر وأنا عارية تقريبا نتيجة لذلك».. كلمات قالتها نوال في شهادتها، وأضافت: «سحلوني على السلالم، واخترقوا بي الحلقة الأمنية، وألقوا بي على الرصيف أمام جميع الضباط».
ما حدث مع نوال تكرر بأشكال مختلفة مع الزميلات عبير العسكري وشيماء أبو الخير وإيمان طه، الأربع تقدمن ببلاغات للنائب العام آنذاك، المستشار عبد المجيد محمود، الذي قرر بدوره حفظ التحقيق فى أحداث «الأربعاء الأسود» يوم 27 ديسمبر 2005 «لعدم الاستدلال على الفاعل».
أمس وأنا في طريقي إلى نقابة الصحفيين، وعلى بوابة ميدان التحرير من ناحية شارع قصر العيني، أوقفني ضابط شرطة وطلب مني تحقيق الشخصية، فأخرجت له كارنية النقابة، سألني «رايح تشتغل ولا تحتفل»، لم أرد، فى تلك الأثناء وصلت ميكروباصات «المواطنين الشرفاء»، فأبلغ الضابط عبر جهاز اللاسلكى مسؤول آخر «أيوه يا فندم وصلت 6 ميكروباصات من الرجالة بتوعنا.. نبعتهم على طلعت حرب.. تمام يا فندم».
أكملت مع أصدقائي طريقنا إلى النقابة ومررنا بميدان طلعت حرب، وهناك لمحت نفس الوجوه التى كانت تقف على سلالم نقابة الصحفيين ضد مبارك، يحيى القزاز ويحيى كارم وساهر محمود وحمدي عبد الرحيم، وآخرون لا أعرفهم، لكن ملامحهم منحوتة فى ذاكرتي، كما شاهدت نفس الوجوه العابثة المتجهمة للسادة الضابط والأمناء، ومن خلفهم يقف «الشراشيح» مستبدلين صور مبارك بالسيسي، ويرفعون أعلام السعودية بجانب الأعلام المصرية، يلاحقون كل من تسول له نفسه ويهتف: «عيش حرية.. الجزر دي مصرية»، ويعتدون عليه جسديا وجنسيا.
أمام حلواني العبد، رفعت شابة فى العقد الثالث من عمرها، كارت أحمر وهتفت بأعلى صوتها «ارحل.. ارحل.. أنا سلمية وبقولك ارحل»، لترد عليها منتقبة تنتمي إلى فريق «المواطنين الشرفاء»: حط الجزمة فى بوق الكل حكم العسكر زي الفل.
وفى بؤرة أخرى، هتف أحدهم «عيش حرية.. الجزر دي مصرية»، ليلتف حوله العشرات مرددين نفس الهتاف وتتسع الدائرة، فينتبه الأمن ويتحرك برفقة «الشراشيح» فى اتجاه المجموعة، فيهرب منهم عدد إلى الشوراع الجانبية، ومن لم يتمكن من الهرب انضم إلى «الشرفاء»، وهتف «سيسي.. سيسي» لينجو بنفسه من الاعتداءات والتحرش والاعتقال.
لم نتمكن فى النهاية من الوصول إلى النقابة، التى تم حصارها من كل الجهات، وأغلقت قوات الأمن مداخلها، ووقف البلطجية الذين تم استئجارهم ليتصيدوا كل من يعلن عن رفضه لتسليم الجزر المصرية، فى حين سمح لكل من يحمل صور السيسي والأعلام السعودية بالمرور إلى حرم النقابة.
فى تلك اللحظات، مر أمام عيني مشاهد الحراك السياسي الذي بدأ فى 2005 وانتهى فى 2011 بسقوط مبارك، لم أشعر بالإحباط أو اليأس، بل بالعكس تملكني يقين بأن مصر الجديدة قادمة، لن يوقفها نظام أمني يستأسد على شعبه ويسد أمامه كل منافذ التعبير عن الرأي، بينما يخضع أمام الكفيل السعوي، ويسلمه جزءا من أرضه، وأن ما حدث يوم الاثنين طوبة في جدار بناء الدولة.