الزمان هو الخامسة من مساء يوم الثلاثاء ١٩ أبريل والمكان هو قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة والمناسبة هى احتفال كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
بعيد تأسيسها فى الخامس والخمسين وإلى هنا يبدو الأمر عادياً لكن الدكتورة هالة السعيد العميدة الرائعة للكلية جعلت من الاحتفال حدثاً استثنائياً فقد تكفل مصنع الأفكار القار فى رأسها بإنتاج فكرة بمليون جنيه كما يقولون وهى أن يكون الاحتفال مناسبة لتكريم الدفعات العشر الأولى من خريجى الكلية على أن يكون جميع الخريجين مدعوين للاحتفال وكذلك جميع طلبة الكلية ، وكعادتها فى إجادة العمل الجماعى حولت الكلية إلى خلية نحل لبلورة الفكرة تنظيميا ومضمونياً واستعانت بلجنة تحضيرية ضمت بعضاً من أبرز خريجى الكلية من المحتفى بهم ، وفى الساعة الموعودة بل وقبلها بدأ الجميع يتقاطرون على مكان الاحتفال كأنهم ذاهبون لحفل عرس ، وبالنسبة للبعض كان لقاؤه بزملائه وزميلاته ربما للمرة الأولى من عشرات السنين . اختلفت الملامح قليلاً أو كثيراً لكن سعادة الجميع كانت غامرة بعودة ذكريات الماضى الجميل . سافر البعض إلى مصر خصيصاً من أماكن إقامتهم خارج مصر أو من خريجيها العرب الذين يمثلون قيمة عالية فى عطاء الكلية وكان فى هذا خير مؤشر على علاقة الانتماء الخاصة التى تربط الكلية بأبنائها .
بدأ الاحتفال بكلمة العميدة التى ألقت الضوء على « سنوات الحلم والميلاد « وفقاً للتعبير الجميل الذى ورد فى الكتيب الذى أعدته باقتدار الدكتورة نيفين مسعد ، وأوضحت الكلمة السياق الذى نشأت الكلية فيه والدور الذى لعبته ليس فقط على الصعيد الأكاديمى ورفد مؤسسات الدولة بأجيال من الخريجين الأكفاء الذين لعبوا أهم الأدوار فى العمل الوطنى وإنما أيضاً على صعيد الحركة الوطنية المصرية خاصة وقد تزامنت سنوات النشأة مع أحداث حاسمة فى تاريخ مصر بدءاً من رعاية معارك التحرر الوطنى وتأكيد الاستقلال عن قوى الهيمنة ومروراً بمعركة التنمية وهزيمة ١٩٦٧ وما أفضت إليه من حراك وطنى لعبت الكلية فيه دوراً رائداً ، وذكرت العميدة باعتزاز كيف كانت الكلية حاضنة لمدارس علمية وفكرية رائدة ومتنوعة ثم ألقت الضوء على ما وصلت إليه الكلية من تقدم ورقى فى برامجها العلمية ونظم التدريس فيها بما جعلها تقف على قدم المساواة مع أرقى الكليات الجامعية فى العالم بدليل علاقات التعاون العلمى مع عديد من هذه الكليات فى أوروبا والولايات المتحدة وهى علاقات كاشفة للمستوى المتميز لطلاب الكلية وأساتذتها معاً ، ثم ألقى د. جابر نصار الرئيس القدير لجامعة القاهرة كلمة شارك فيها أسرة الكلية احتفالها وأشاد بدوره بالكلية وأدائها ، والواقع أنه لا يتردد فى رعاية أى نشاط خلاق فى جامعة القاهرة ، وسوف يذكر له تاريخها ما حققه من إنجازات سواء على الصعيد الأكاديمى أو فى مجال استكمال مشروعات أساسية كانت معطلة لأسباب تمكن بمبادراته من إيجاد حلول لها أو على صعيد النشاط الطلابى الذى شهد هذا العام الدراسى أول موسم ثقافى متكامل للطلاب جمع فيه بين الثقافة والفن وأثبت بموجبه أن الإرهاب لا يعشش إلا عندما يتوارى الفكر وتتراجع الثقافة ومعها الفن الجميل ، وعندما بدأ تكريم خريجى الدفعات الأولى من الكلية كانت الرسالة واضحة لطلابها فقد كشف هذا التكريم عن الدور الاستثنائى الذى لعبته الكلية فى الحياة المصرية ، وقد لا يكون العنصر الأهم فى هذا الدور هو تولى المناصب الوزارية وقد أحصيت منهم أثناء الحفل خمسة عشر وزيراً ، ولعل الكلية تكون المؤسسة الأولى من حيث عدد الوزيرات اللاتى تنتمين إليها وهن ست وزيرات على الأقل ، لكن الأهم بالتأكيد هو ما كانت تعرضه شاشات الاحتفال من تعريف بالمكرمين وهو التعريف الذى كشف عن عمق الأدوار التى لعبها خريجو الكلية وشمولها كل مجالات العمل الوطنى فى تخصصاتهم حيث شغلوا باقتدار رئاسة مجالس إدارات مؤسسات صحفية قومية ومواقع القيادات بعد المستوى الوزارى مباشرة وهى التى تمثل الجنود المجهولين فى كل ما يتحقق من إنجازات .
غير أن كل ما سبق يمكن وضعه فى كفة وفى الكفة الأخرى الفقرة الفنية فى الاحتفال التى استضافت فيها الكلية الموسيقار عمر خيرت بفنه الممتع الراقى وحسه الوطنى الفياض ، وهو ليس غريباً عن جامعة القاهرة فقد استضافه الدكتور جابر نصار فى موسم الجامعة الثقافى لهذا العام ، ولا يحتاج عمر خيرت شهادة من مثلى على ما يقدمه من فن رفيع ولكنى أكتب هنا عن السيمفونية الرائعة التى شكلها حضوره وفرقته المبدعة مع الآلاف من خريجى الكلية وطلابها الذين غُصت بهم قاعة الاحتفالات وشرفاتها وشكلوا مع عزفه الممتع أوركسترا متكاملا ، وقد بلغ تأثرى مداه وهم يرددون مع موسيقاه بمنتهى الحماس والدقة أغنياته الوطنية الجميلة : زى ما هى حبها ... وفيها حاجة حلوة ، ويطالبونه بقلوبهم قبل أصواتهم بالإعادة وهو يستجيب لهم بمنتهى التواضع والتأثر حتى تجاوز الزمن المخصص لفقرته بكثير. خرجت بعد الحفل بشحنة تفاؤل هائلة وأخذت أتساءل بينى وبين نفسى: أهذا هو الشباب الذى يتهمونه بعدم الانتماء ؟ ومن حقاً تراه يستحق هذه التهمة ؟