الوطن
سهير جودة
حملة تمكين الجهل
عندما يتحول الباطل إلى حق والحق إلى باطل وعندما تغيم الرؤى ويسود الشك وتهتز القيم وتختلط المعايير يتوارى الخجل ويندثر، وبالتالى يتصدر المشهد من هو أولى بالخجل فيتفاخر ويباهى ويزهو ولا يكترث ولا يستتر، فالفاسد لا يخجل من فساده ما دام يحقق له وجاهة وأشياء أخرى وما دام يستطيع به أن يكون فى موقع قوة يحمى به هذا الفساد، وبعضهم فى فئة الفاسدين ما يمكن أن نعتبره فاسداً فاجراً، إذ يفصح ويتفاخر وكأن فعل الفساد فعل طبيعى، فهناك فى هذه الفئة من أُدين فى جرائم مختلفة ولكن عندما خرج من القضايا التى أعلنت عن قذارته خرج يبحث عن أدوار جديدة يستعيد بها نفوذه وسطوته ووجاهته الاجتماعية.

يبتلى الوطن بنماذج كثيرة ومختلفة من الفاسدين ولكنهم لا يخجلون، الجاهل يفاخر بجهله إذا كان المناخ المحيط يسمح بتمكين الجهل وبالتالى فالجهلاء فى ازدياد والبحث عن مساحة وفرصة للوجود وللمكاسب أو القيام بدور الواعظ الاجتماعى أو تصدر أى مشهد أياً كان نوعه أصبح هدفاً أساسياً لعدد كبير من الجهلاء، والقاسم المشترك هو قيام الجاهل بتجاهل جهله وامتلاكه وفراً من الجسارة ما يجعله لا يضع أى اعتبار لضرورة وجود مؤهلات خاصة، وبالتالى أصبحت بعض المنصات الاجتماعية أو الإعلامية يعتليها جهلاء، والأهم أن هذه المنصات أصبحت هى الأكثر انتشاراً وجماهيرية وتأثيراً فى مجالات كثيرة، وهنا تكمن الكارثة فليست جسارة الجهل فقط ولكن تأثير هذا الجهل القاتل على أصحاب العلم والكفاءة، وبالتالى نجد أن هناك من يترأس جهازاً أو من تُفتح له المجالات ويتم اختياره بلا مؤهلات حقيقية ولأسباب ومبررات يخجل العبث منها ولكنهم لا يخجلون.

أصحاب المليارات فى مصر سقطت منهم حُمرة الخجل، فقد جعلوا مصر صاحبة أرقام قياسية فى البناء الفاخر وعدد المنتجعات الفاخرة ولكنهم لا يخجلون من زيادة ثرواتهم ويعميهم الثراء فلا يرون المجتمع، الفترة الأخيرة شهدت طفرة غير مسبوقة فى المشروعات العقارية واندثر رأس المال الوطنى الذى كان يستحى فيضع المجتمع فى اعتباره، أما أثرياء الآن فلا يضعون اعتباراً لطبيعة المجتمع ولا يخجلون من الاستمرار فى بناء منتجعات فاخرة، بينما أحد أضلاع مثلث الرعب فى هذا المجتمع هو الحق فى السكن وتكاد تنتحر الدولة لتوفيره للناس.

رأس المال الحالى الذى يطلق على نفسه كلمة وطنى لا يستحى ولا يراعى هذا البعد الاجتماعى فيقوم ببناء كل الأنواع بالتنسيق مع الدولة، بحيث تأتى فائدة الاستثمار لتحقق مصالح طبقات كثيرة ولا تكون مقصورة فقط على قشرة صغيرة من الطبقة العليا والأكثر مأساوية أنهم لا يحرجون من طريقة التفكير فى امتلاك البيوت الفاخرة ليس بهدف الاحتياج وإنما رغبة فى مزيد من الثراء، فهم ينتظرون زيادة أسعارها ليقوموا ببيعها فيكسبوا فيها أضعافاً بينما هناك من يبحث عن أربعة جدران، وبالقياس هناك مجالات فى الاقتصاد لم يعبر عليها الخجل فأغلب رؤوس الأموال تعمل على أنشطة قائمة على الاستهلاك وليس على بناء الاقتصاد، مثل السلع الغذائية والسلع المنزلية المعمرة ومستلزمات البناء وغيرها وهو اقتصاد قائم لترسيخ عادة وإعادة إنتاج الاستهلاك أفلا يخجلون.

وفى السياسة هناك من يفهم السياسة أو يتعاطاها على اعتبار أنها المقدرة على النفاق والانتهازية والفساد والإفساد وبعضهم لا يخجل من ذلك ولا يرى فيه عيباً، وبالتالى فهو يبدع فى التقرب والتزلف والانتهازية وهناك من أصبحوا قيادات بارزة، وهناك من لم يجد حرجاً فى قبول منصب وزارى أو منصب مهم وهو فى المعرفة من الأقزام، وهناك من أنشأ أحزاباً، ومنهم من تمكن من التسلل إلى مجلس النواب لتمثيل الشعب، وبينما هم لا يملكون سوى حب الشهرة والشهوات والوجاهة وهؤلاء لا يخجلون ولا يتورعون فى الحديث باسم الشعب وباسم الوطن وباسم مصالح المواطن والطبقات الكادحة، وفى الواقع هم يذبحون كل هؤلاء ولا تساوى لديهم حقوق الوطن والمواطن جناح بعوضة وإنما المتاجرة بالوطن والناس هى جسر يعبرون به لتحقيق أهدافهم، والمثير أن البعض منهم لا يخجل عندما يتم استخدامه واستغلاله لترديد آراء أو القيام بأفعال لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وربما لا يعرفون الأسباب وراء استخدامهم فى هذه الأشياء ولكن الأهم أن يكونوا هم الواجهة، أما الحياء والخجل فقد انتحر.

وفى المتاجرة باسم الدين انقلبت حُمرة الخجل إلى سواد فنحن أمام طوفان من أصحاب الفتاوى باعتبارها تجارة رابحة وبشر لا تخجل من خلط علوم الدين بالسياسة وبالمصالح وإعادة تصديرها للناس وتوجيههم يميناً ويساراً جهلاً أو جهلاً أكبر بلا وازع من خير أو دين، والمنابر والشاشات متخمة برؤوس الجهلاء تحتمى بغياب المعرفة عن أغلب الناس وتفتئت على الله وعلى الدين، وأغلب هذه الوجوه غير مؤهلة معرفياً وناقصة عقل وثقافة، لا تعرف سوى القشور التى هى فى أغلبها مشوه أو غير صحيح، ومع ذلك لا تخجل من ادعاء أنها أوتيت من المعرفة والعلم ما لم يمنحه الله لغيرهم من البشر، وبعض من يطلق على نفسه ناشط سياسى أو حقوقى أو نشطاء مواقع التواصل لا يخجلون من أنهم لا يفعلون شيئاً سوى تمزيق الوطن والانتقاد والسخرية دون أن يطرح على المجتمع أى أفكار أو رؤى للخروج من أزماته أو أى تصورات لإدارة هذه الأزمات، فهذه الفئة استمرأت الصياح والتظاهر والاعتراض واخترقت آليات الهدم والإسقاط، والمؤكد أنها غير قادرة على معرفة آليات البناء وهى الأصعب، وهؤلاء لا يخجلون بينما هم يدركون فى قرارة أنفسهم أنهم باحثون عن يافطة مناضل أو معارض أو ثورى بصرف النظر عما يعود على هذا المجتمع المسكين من ممارساتهم بكل دأب واجتهاد الهوية ومهنة الرقص على جثة الوطن، يتساوون ومتشابهون ويتطابقون مع رقص الفاسدين والمنافقين والأدعياء والانتهازيين جميعهم لا يخجلون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف