محمد جبريل
ع البحري .. بين المعرفة والثقافة
القول بأن المثقف هو ذلك الذي يعرف من كل شيء خلاصته. واعتبار العقاد مثلا لذلك المثقف. ينطوي علي مغالطة. لأنه لا يوجد في عصرنا من يعرف من كل شيء خلاصته. ثورة المعلومات جعلت السير في مساحتها الواسعة أمرا مستحيلا. ولو أن المثقف العظيم سقراط جاء في زمننا الحالي. فإنه سيواجه موقفا أكثر تعقيدا من الموقف الذي واجهه المنيكلي باشا في رواية المويلحي حديث عيسي بن هشام. ستبدو "ثقافة" الرجل لا شيء أمام "ثقافة" أي طفل في المرحلة الابتدائية. فهو إذن كان قد حصل - في عصره - علي "معرفة" تفوق ما كان لدي الآخرين. وأفادت منها ذاكرته الحافظية. واستيعابه. وإجادة استخدامه لمخزونه المعرفي. حصل الرجل علي المعرفة.
أما الثقافة. فهي السلوكيات. أو التصرفات. التي أفادت مما حصل عليه من معارف. الثقافة خطوة تالية بعد التعلم. بعد المعرفة. مرحلة ما من التعلم. قد تكون أولية أو عالية. إنها - كما يقول أندريه مالرو - ما يأتي فيما بعد.
إن المرء الذي يرافق. أو يلي. "معرفته" فعل إيجابي. يضيف. ويطور. هو الذي يصلح لأن تطلق عليه كلمة "مثقف". ومن الخطأ أن أقصر الثقافة علي قطاع محدد. ومحدود. من أفراد المجتمع. لأن المعرفة إذا أفاد منها المرء - بصرف النظر عن مستواه التعليمي - تصنع إنسانا مثقفا. بل إن الجهل بالقراءة والكتابة لا يحول دون تحصيل قدر كبير من المعرفة وممارسة الفعل الثقافي.
وإذا كانت الثقافة تعني الحضارة بالإنجليزية. فإن الحضارة - كما تتحدث عنها دائرة المعارف البريطانية - هي "مجموعة نتائج العمل الإنساني في إطاره الاجتماعي علي أرض محددة. وعبر زمان معين. أي مجموع أساليب المعيشة التي يتقاسمها أفراد جماعة من البشر من مبان وعلوم وفنون ومعتقدات وتقاليد الخ". وكما يقول ديهاميل. فإن الحضارة إذا لم تكن في قلب الإنسان. فإنها لن تكون في أي مكان.
الثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع. والمجتمع لا يقوم ويبقي إلا علي الثقافة. إنها طريق متميز لحياة الجماعة. ونموا متكاملا لحياة أفرادها. فهي إذن تعتمد علي وجود المجتمع. وتمده بالأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيه. تستوي في ذلك الطاقات البدائية والمعاصرة.
ثمة فارق بين المتعلم. أي الذي حصل علي المعرفة. وبين المثقف. العلم - علي حد تعبير ابن المقفع - كالشجرة. والعمل به كالثمرة. وقد ضرب أندريه مالرو مثلا في الفرق بين المتعلم والمثقف. بعالم الكيمياء الذي يحيا داخل معمله. ولا تثيره قضايا العالم الثالث. هذا هو المتعلم. أما المثقف. فإنه "ذلك الذي يمتد باهتماماته خارج دائرة الذات. وتزداد ثقافته كلما اتسعت دائرة اهتماماته". وربما كان المثقف. كما أشرنا. غير متعلم. والعكس - بالطبع - صحيح!
المعرفة بعد مهم في الثقافة. لكنها ليست كل الأبعاد. ثمة أبعاد أكثر أهمية تجاوز التلقي السلبي. فتحيله فعلا ايجابيا لصالح الفرد والجماعة والبيئة. الثقافة تالية للمعرفة. السلوك هو التطبيق لما نتعلمه. لما نحصل عليه من معرفة. بمعني أن المعرفة هي النظرية. أما الثقافة فهي التطبيق. قد نتعلم النظرية. لكننا لا نحاول التطبيق. والعكس - هنا - ليس صحيحا. ولعله يمكن القول أن المعرفة - أو التعليم - هي واسطة نقل الثقافة. الثقافة عناية بالذهن كي يعطي مردودا أفضل. كما أن الزراعة هي عناية بالأرض كي تعطي مردودا أفضل.. كما يقول إدوار هيريو. فإن الثقافة هي ما يبقي عالقا بالأذهان عندما ننسي ما تعلمناه علي مقاعد الدراسة.