مصطفى عبد الغنى
الأمية الثقافية ..والرقمية
حين نحاول رصد أهم الأخطار التى تواجهنا فى الفترة الأخيرة فسوف تقفز أمامنا قضية الأمية ؛ والأمية هنا ليست الأمية
الهجائية كما يطرأ على الذهن ، وإنما هى هذه الثقافة القابعة المتمددة فى عقول الكثير من متعلمينا ومثقفينا ، فليس هؤلاء- المتعلمين والمثقفين - من اصحاب الامية الهجائية - فعلى الرغم من أن الأمية الهجائية تمتد لتحتل مساحات شاسعة من العقل المصرى (زادت على 45%) فإن الأمية الثقافية تمتد فى مساحات أكثر شراسة وضراوة فى العقل العربى المعاصر إلى مسافات بعيدة، وإنما هم أصحاب الأمية الثقافية التى ابتلى بها الكثير من متعلمينا ومثقفينا..
إن هؤلاء الذين ينتشروا بيننا.. نجد هؤلاء فى مدارسنا ومراكزنا الإعلامية و الثقافية .. ولا نحاج إلى نظرة عامة فى وسائل الإعلام لنلاحظ أن الخطر التقليدى كما نعرفه يتضاءل إلى جانب الخطر الآخر الذى لانعرفه الذى يمتد فى المساحة الشاسعة فى العقل العربى إلى حد بعيد.
ولا نحتاج الخروج الجغرافى من هذا البلد أو ذك فى الشرق حتى نلاحظ أن هذا الخطر- الأمية الثقافية - يمتد فى الشرق الأوسط من إيران شرقا إلى موريتانيا غربا ومن عدن جنوبا إلى اسطنبول شمالا حتى نلتقى بأصحاب هذه العقول الرمادية، ليس بين الأميين فقط أو - حتى المتعلمين - وإنما إلى هذه الجماعات الأصولية التى تنتمى إلى التخلف أكثر منها إلى الوعى بطبيعة العصر وآلاته ، وتؤكد المساحات الشاسعة من الجغرافيا إلى هذا الغياب الفكرى من الطائفية الى العرقية، وبدلا من أن نحضر فى قضايا المعاصرة والوعى بإيقاع الألفية الثالثة إذا بنا نغيب بين العرب والأكراد والايزيديين والأمازيغ والسريان والتركمان.. إلى آخر هذه الفئات التى نعثر عليها فى ظلال داعش على سبيل المثال المحزن والمؤلم .. وعلى مدى البصر نخرج من الجغرافيا والتاريخ إلى ما يمكن أن نعرف عبر تلك الميديا الاجتماعية اليوم حيث يعاود الخط البيانى الخطر حركته المهينة فى صعود متواتر ..
انه الخط المريع الذى ينتقل من صحفنا ومؤسساتنا التقليدية الى الفضاء الافتراضى.
إنه الخط المريع الذى ينقل وعينا وهويتنا إلى هباء الفضاء الافتراضى يمتد هذا الخطر بين الافتراضيين او الفضائيين (الانترنتيين) الذين ينتشرون بيننا كالفطر على صفحة حياتنا ..
يمضى الخط البيانى المؤلم الذى يشير الى درجة الوعى بين مثقفينا أو متعلمينا فى هبوط متوال فى الميديا الاجتماعية او social media خاصة فى هذه الحسابات الشخصية التى يمكن العثور عليها عبر صفحات التواصل الاجتماعى حيث تسود فى شبكات الاعلام الاجتماعى آلاف الأصوات أو - بشكل أدق - ملايين الأصوات على الفيس بوك وتويتر ويوتيوب وانستجرام .. إلخ وقد غابوا فى أغلبهم فى حوارات وهمية وقضايا عامة .
لقد تحولت هذه الوسائل - بعد أن لعبت دورا إيجابيا هائلا فى قيام ثورتى 25يناير - 30 يونيو- إلى أدوات تهتم بأشياء أخرى لم يعرفها الشباب الواعى المستنير الذى قام بهذه الثورات ، فإذا عبرنا من وسائل ثورة التقنية المتقدمة والروبوتات الآلية وفضاءات هذا العالم الافتراضى والثورة الرقمية .. إلى غير ذلك لوصلنا إلى فضاء معاصر آخر ، راح يستبدل بالخطاب الافتراضى او الفضائى الايجابى عالما مغاير يشغل بقضايا وهمية ليس لها مكان فى الواقع العربى المعاصر الذى يشهد ضغوطا عاتية من الداخل والخارج فى آن واحد ..
يتمثل هذا فى تجاوز الوعى الجمعى الى الانشغال عبر حسابات شخصية وصفحات التواصل التى لاتغادر القضايا اليومية التى لا تغادر القضايا الشخصية والمهاترات الموجعة ، لقد تغيرت الاهتمامات بالهوية الرقمية وويلاتها فى الألفية الثالثة إلى نقل هذا الخبر أو ذاك مما لاينتمى إلى العقل الجمعى ولا ما تواجهه الأمة فى زمن التحديات ، والنظرة العامة على مساحة الميديا الإجتماعية العربية اليوم يرينا إنشغال اصحابها بالحسابات الشخصية والفيديوهات والصفحات الكثيفة التى تؤكد غياب الوعى العربى الراديكالى عن عالم تشغله أخطار عنيفة فى الداخل والخارج ..
إننا على شبكات التوصل الاجتماعى اليوم أمام عبارات عامة تؤثر الاهتمام بعمل لايك وشير بشكل مستمر، حتى انه يمكن القول ان الامية الرقمية وصلت الى اقصاها ، حتى أننا أمام شهادة دالة من أحد رواد المشهد الرقمى- وائل غنيم ...- إذ يسجل بالحرف الواحد هذه الفترة المعاصرة التى نحياها، يقول - اليوم تشكلت خبراتنا فى استخدام مواقع التواصل الاجتماعى، بحيث بتنا نفضل بث الخبر على الدخول فى إلتزامات، كتابة التعليقات على النقاشات، والتعليقات السطحية على النقاشات العميقة، كأننا اتفقنا على أن نتحدث عن بعضنا بدلا من التحدث مع بعضنا البعض لقد استبدلنا بهذا المثقف الواعى بآخر يمارس هوايته الرمادية عبر التغريد والرتويت والهاشتاج وكأن بلادنا لايهددها الخطر الغربى الإمبريالى العنيف ، ولا الجهل الرقمى المريع ؛ لقد تحول شبابنا من الافتراضيين الايجابيين إلى الأميين المقلدين والمرددين لتعليقات وألفاظ عنيفة ويغيب بعضهم فى موسيقى الراب الصاخبة التى تعلو حتى يغيب عن الصورة اى وعى ايجابى يدفع إليه الواقع العربى الرمادى العاصف الحزين فى الألفية الثالثة ..
إنها الأمية الثقافية والرقمية والمعرفية التى أصبحنا، جميعا ، أسرى لها