التحرير
عمرو حسنى
مدد يا صاحب القنديل
فى كثير من المجتمعات تتحول السلطة إلى دجال يدعى القدرة على علاج أمراض لا يقوم بتشخيصها بطريقة صحيحة، ولا يملك علمًا يتيح له معرفة الدواء الذى يعالجها وكيفية استخدامه بصورة فعالة. لكنه يسيطر على عقول المرضى البسطاء ويستنزف مواردهم القليلة على الرغم من تفاقم أمراضهم على يديه يومًا بعد آخر.

بل ويصل إلى درجة من القوة والسيطرة تجعله يوغر صدورهم تجاه الأطباء النابهين الذين يفضحون جهله، ويدفع أولئك البسطاء بكل الوسائل إلى الشك فى ذمتهم ودوافعهم بطريقة ربما تجعل الطبيب يصل إلى حالة من الإنهاك، والقرف، وفقدان الأمل، وانعدام الرغبة فى مساعدة المريض الذى يتربص به ويهينه ويتعامل معه كأنه انتهازى منتفع يدبر المؤامرات ليحرمه من جنة الشفاء الوهمى التى يزينها له الأفاقون!

يمكننى أن أقول بلا مبالغة إن المجتمع المصرى لم يصل طوال تاريخه إلى حالة استقطاب حادة تعبر بصراحة عن واقعه الطبقى المحتقن كما يعبر عنه الآن بصورة مزرية بعد مرور خمسة أعوام على ثورة يناير. حالة الاستقطاب الحادة التى صنعتها سلطة تستخدم أجهزة الحماية لقمع الأصوات المعارضة بقوانين غير دستورية سيئة السمعة، وتلقى بفشلها على عاتق المواطن المسالم الذى يرفض سياساتها، دفعت بكثير من البسطاء إلى الاعتقاد بأن كل معارض خائن يتلقى تمويلاً من جهات خارجية تهدف إلى تدمير الوطن.

على الجانب الآخر وصل المواطن الثورى الذى يختلف مع توجهات السلطة ويسعى إلى التغيير، أو حتى إلى مجرد الإصلاح، بطريقة ديمقراطية سلمية إلى حالة من اليأس جعلته يفقد الثقة فى الشعب الذى يتهمه بالخيانة بلا أدلة، ويطارده مع الشرطة فى الطرقات، وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعى، وجعلته يقترب من الكفر بالشعب متعللاً بأنه يستحق حياته المزرية التى تفتقر إلى حقه فى الكرامة والخبز والتعليم والعلاج! بل وربما وصل الأمر ببعض الثوريين إلى الاعتقاد بأنهم يعيشون غرباء فى مجتمع بليد لا يستحق تضحياتهم.

إنها حالة مجتمعية مزمنة وسيئة إلى أبعد الحدود. تشبه رواية "قنديل أم هاشم" للكاتب العبقرى يحيى حقى. بطلها طبيب عيون شاب عاداه أهل حى السيدة زينب وكاد بعضهم أن يفتك به بعد أن انتهك حرمة المقام الزينبى وحطم قنديل الزيت المقدس "الملوث"، الذى يقطر منه الدجالون فى عيون مرضاهم فيصيبهم بالعمى بدلاً من الوصول بهم إلى الشفاء. نقطة التحول الإيجابى، فى اعتقادى، التى دفعت الطبيب الشاب المتحمس إسماعيل إلى الهدوء واعتماد منهج مختلف فى التعامل مع مرضاه كانت تكمن فى وصوله إلى الاقتناع بأن هذا هو واقعه السيئ الذى ينبغى له أن يتعامل معه بفهم لا بكراهية.. ومن هنا يجب أن نبدأ.

نحن بشر بالطبع ويحق لك أن تمر بلحظات من السخط واليأس، ولكن هذا هو الواقع الذى تثور من أجل تغييره، إن كنت ثوريًّا بحق، ولا يمكنك أن تستورد واقعًا غيره.

كتبت فى مقالى الماضى عبارة لن أمل من تكرارها: الطريق صعب وطويل وملىء بالحفر والعوائق والمستنقعات والمجارى الطافحة، ولكننا يجب أن نقطعه وندفع الثمن، ونحن نطالب بالعدل والكرامة والحرية والديمقراطية. وأضيف عليها: ونبتكر كل الطرق الممكنة لفضح الأفاقين وتبصير الشعب بمصالحه دون أن ننزلق إلى معاداته لأن انحيازك للضحية يفسد تمامًا عندما يتحول إلى تعالٍ عليها يمنعك من احتمال تجاوزاتها.

فهم الواقع والعمل بصبر وتفانٍ على تغييره بلا نزق أو تضحيات مجانية هو الذى جعل المرضى يتوافدون من تلقاء أنفسهم، رغبة فى الشفاء، على عيادة "إسماعيل" طبيب يحيى حقى.. ولو بعد حين.. مدد يا صاحب القنديل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف