محمد جبريل
من المحرر -الشعر في لجنة النثر!
يقول ابن خلدون: "إن المؤرخين والمفسرين كثيرا ما وقع لهم من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها علي مجرد النقل. غثاً أو سميناً. دون أن يعرضوها علي أصولها أو يقيسوها بأشباهها"
وحتي الآن فإن البعض من مثقفينا يستدعي حادثة ديوان الشعر الذي تقدم به صلاح عبدالصبور للفوز بجائزة الدولة التشجيعية. قيل إن العقاد وزكي نجيب محمود أحالا الديوان إلي لجنة النثر "ماذا كانا يفعلان هذه الايام وقصيدة النثر معلنة باسمها الصريح؟" أعاد زكي نجيب محمود رواية تلك الواقعة فنفاها. ذكر ظروفاً مغايرة. ورفض الاتهام بأن العقاد- بتأييد من زكي نجيب- وجد انه إذا أراد عبدالصبور أن يفوز بجائزة الدولة. فليطلبها من لجنة النثر!
قال زكي نجيب محمود في مقال له: "حدث بعد العدوان الثلاثي عام 1956 بقليل. أن شرعت لجنة الشعر في المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب- وكنت عضواً فيها. وكان العقاد مقررها- شرعت في جمع ما كان الشعراء قد أبدعوه بمناسبة العدوان الثلاثي لنشره في مجموعة واحدة أولاًً. ولاجازة من تراهم اللجنة في المراتب الثلاث الاولي. وانقسمنا نحن الاعضاء لجاناً ثنائية. كل لجنة تنظر في الشعر المجموع كله لاختيار الثلاثة الاوائل مرتين الاول منهم فالثاني فالثالث. وكان معي في لجنتي الثنائية المرحوم علي أحمد باكثير. ووقع اختيارنا للجائزة الاولي علي قصيدة من الشعر الجديد- أظنها كانت للأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي- لكن أسماء أصحاب الشعر كانت سرية لا يعرفها أعضاء اللجان الفاحصون وجاء يوم انعقاد اللجنة بكامل أعضائها لعرض أسماء المرشحين. فأولاً. كان مما يلفت النظر أن جميع اللجان الثنائية قد اتفقت في ترشيحاتها علي الثاني والثالث. وهذا الاتفاق- في رأيي- هام جداً للباحثين في فلسفة الجمال الفني. للقائمين علي النقد الادبي. لانه دليل شديد الرجحان علي أن مقومات الجودة في مبدعات الادب والفن أمور موضوعية موجودة في الاعمال ذاتها. وليس الامر كله موكولاً إلي الاذواق الفردية الذاتية التي لاضابط لها. وثانياً. عندما دارت المناقشة علي من يكون أول الفائزين كنا نحن وحدنا- أعني لجنتنا الثنائية- الذين خرجوا علي إجماع بقية اللجان الثنائية. فبينما اجتمع رأي الجميع علي شاعر معين. كان ترشيح لجنتنا الثنائية لقصيدة من الشعر الجديد. وهنا نشأ الخلاف.
كما تري. فإن دفاع الرجل عن الاتهام الذي وجه إليه. ظل- حتي بعد رحيله- أشبه باتهام نيرون أنه قد أحرق روما. واتهام النعامة أنها تخفي رأسها في الرمال. واعتبار الحمامة رمزاً للسلام. إلخ..
لم يكن في الامر جائزة. ولم يكن لعبد الصبور صلة بالامر كله. لكن "النقلية" أعادت الرواية. باعتبار أن ذلك هو ما حدث بالفعل. وربما قرأ الكثيرون كلمات زكي نجيب محمود. وهزوا الرءوس مقتنعين. ثم عادوا إلي الحديث عن واقعة شعر صلاح عبدالصبور. الذي أحالته لجنة الشعر إلي لجنة النثر!
أذكر قصة لعبد الحميد السحار عن مسئول اقتصادي مصر. سافر إلي أحد البلدان ليدحض الاتهام بأن الاحذية تصدر كل زوج من فردتين متشابهتين. وفتح الخبير الاقتصادي العشرات من صناديق الاحذية. حتي اقتنع التجار في البلد المستورد بأن الاحذية يمين وشمال. وقبل أن يصعد الطائرة عائداً إلي مصر. سأل تاجراً كان في وداعه: هل تشكون شيئاً؟
قال التاجر في بساطة: فقط.. لا ترسلوا أحذية من فردتين متشابهتين!
هذه هي حكاية أستاذنا زكي نجيب محمود مع الاتهام الذي مازال- وأغلب الظن انه سيظل- قائماً. مثل المسلمات. بأنه كتب المذكرة التي أحالت ديوان عبدالصبور إلي لجنة النثر!