د/ شوقى علام
السياسة الشرعية وفقه الدولة «12» مسئولية المواطن عن تصرفاته
لقد بين الشرع الشريف أن كل إنسان مسئول عن تصرفاته دنيا وآخرة، ومن ثَمَّ فجزاؤه مترتب على عمله، قال تعالى:“وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” [التوبة: 105]، وفيه عطف “رسوله” على اسم الجلالة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو صاحب الرسالة وهو شهيد على المسلمين وأعمالهم؛ ثم عطف عليه كلمة “المؤمنون” أيضًا للدلالة على كونهم شهداء الله تعالى في الأرض.
والمسئولية فرع عن الحرية والاختيار في جميع تصرفات الإنسان، وهي تتضاعف طرديًّا مع ما يتحمله من واجبات، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم مستويات هذه المسئولية، مشيرًا إلى أنها في الأصل فردية، قال صلى الله عليه وسلم: “ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”، ولذلك فالعلاقة بين كل راع ورعيته علاقة تبادلية قائمة على تأدية الحقوق والقيام بالواجبات .
وتأتي على رأس هذه العلاقات علاقة المواطن بالدولة التي تحمِّل فيها القيام بواجبات مدنية وقانونية وأخلاقية، سعيا إلى تحقيق جملة من المقاصد والمصالح: كالأمن والتنمية والرخاء ووأد الفساد والابتعاد عن الفوضى. فهناك واجبات على المواطن تجاه محيطه الطبيعي الذي يعيش فيه، وهي مسئولية جسيمة تقضي بوجوب المحافظة على هذا المحيط ضد الأخطار التي تهدده، كتلوث المياه والهواء والتربة، وتقع عليه مسئولية ترشيد استهلاكه، لأن الله تعالى لا يحب المسرفين، كما تتعاظم مسئولية الفرد التي تتناغم مع مسئولية المجموع وتتفاعل معها في كل مجال يضر بالدولة التي يعيش فيها أيا كان هذا الضرر.
والاهتمام بهذه الأمور ليس ترفًا، كما سيأتي، وإنما ضرورة حياتية وواجب شرعي؛ فقد اعتبر الإسلام الإفساد في الأرض بكل صوره وأنواعه عملا مُحَرَّمًا وفعلًا مُجَرَّمًا؛ إذ فيه تعطيل للكون فضلا عن مصالح الخلق، قال تعالى: “وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ” [البقرة: 205].
وهناك واجبات اجتماعية على المواطن تجاه أسرته تتمثل في التربية والحماية والإنفاق، وأخرى تجاه أصدقائه وزملائه وجيرانه وأبناء وطنه تستوجب التعاون ونشر التسامح ومبادلة الاحترام والتقدير، وهي مقاصد سامية تهدف إلى تماسك المجتمع وتعزز الروابط والصلات بين أفراده ومكوّناته؛ حتى يكون المجتمع كله كالجسد الواحد، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى وسائل تحقيق ذلك؛ كقوله: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا”، وآثار هذه المسئولية الأسرية لا تقف عندها، بل تتعدى إلى المجتمع كله إيجابا وسلبا.
وهناك واجبات تجاه الوطن ينطلق منها المواطن لصد العدوان عنه مهما كلفه ذلك، ولدرء الفتن والفوضى عنه والوقوف في وجه الشائعات الكاذبة والمغرضة تجاهه، قال صلى الله عليه وسلم: “بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع”، كما أنها تستوجب الابتعاد عن تخويف الآمنين والمسالمين.
وكذلك هناك واجبات أخرى للوطن على المواطن تُحرِّم عليه الوقوف في صف الأعداء والمتآمرين عليه؛ فضلا عن أن يكونَ المواطن صاحب المؤامرة عليه بأي وجه من الوجوه المادية والمعنوية، أو السعي فيه بالإفساد والتشغيب وتخريب الممتلكات العامة، ولا يخفى أن القائم بذلك مجرم معتد أثيم، يجب الضرب على يده بالعقوبة اللائقة الرادعة له ولأمثاله ممن يسعون في الأرض فسادًا ويعملون على خراب الأرض، لا بنائها وإعمارها، ولا يتوقف أثرها السلبي على فرد بعينه بل يعود إلى المجتمع ككل، ونظيره في الإثم والإجرام والفساد: من يحرضه على ما يفعل، وكذلك من يشجعه ولو بشطر كلمة، ومن ينفي عنه اللائمة أو يحاول إعذاره، لأن كلا منهم متعاون معه داعم له في فساده.
وهناك واجبات على المواطن تجاه مؤسسات الدولة، وهي تقضي على المواطن احترام مؤسسات الدولة وألا يتطاول إلى سلب هذه المؤسسات شيئًا من اختصاصاتها وصلاحياتها أو مزاحمتها فيها، وقد اعتبر الشرع الشريف تلك الأفعال من الافتيات على الدولة وهو من جملة المحظورات الشرعية التي يجب أن يُضرَب على يد صاحبها؛ حتى لا تشيع الفوضى، وكي يستقر النظام العام، ويتحقق الأمنُ المجتمعي المطلوب؛ فالافتيات على مؤسسات الدولة ممنوع محرم؛ لأنه تَعَدٍّ على حقوقها بمزاحمتها فيما هو لها، وتَعَدٍّ على إرادة الأمة التي أنابت هذه المؤسسات عنها في تدبير شئونها، والفقه الإسلامي مملوء بالاجتهادات المحددة لحقوق الدولة ومسئولية الفرد عنها.
وبذلك تتجلى حقيقة مهمة من شأنها تأكيد أن مسئولية المواطن هي مسئولية فردية، وهي أساس للمسئولية الجماعية، فلا يمكن استقامة المسئولية الجماعية إلا بوجود المسئولية الفردية على وجهها الصحيح، وأن مسئولية المواطن نحو تصرفاته المتعلقة بالوطن تتلخص في البناء والتعمير والمشاركة الفاعلة الإيجابية في احترام وطنه وصون أراضيه والدفاع عن هويته وتقوية نظامه العام وتنمية اقتصاده والمحافظة على ممتلكاته ومرافقه العامة وحماية ثرواته ومكتسباته؛ فبناء الأوطان من مقتضيات استخلاف الإنسان في الأرض؛ قال تعالى: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” [هود: 61].