العلاقة بين الرئيس وجماعات النخبة السياسية والثقافية ليست على ما يرام. لا يفوت الرئيس فى كل مرة تحدّث فيها إلى الشعب التذكير بأنه لا يوجّه كلامه للمثقفين، وإنما إلى عموم المصريين من غير جماعات النخبة. ظاهر كلام الرئيس يوحى بأن الرئيس لا يريد أن يوجه النقد لجماعات النخبة، ولا يريد لكلامه أن يمثل ضغطاً عليهم، أما جوهر كلامه فيشير إلى أن الرئيس لا يريد أن يكون طرفاً فى مجادلة مع المثقفين وجماعات النخبة، إما لأن الرئيس لا يرى فى جماعات النخبة ما يكفى من الجدارة لتصبح طرفاً فى حوار معه، أو أنه لا يرى فائدة تُرجى من الحوار مع هؤلاء.
للرئيس السيسى رؤيته بشأن مصر، ووفقاً لهذه الرؤية تتحدد علاقته بجماعات النخبة. تتلخص رؤية السيسى لمصر فى التنمية وبناء مصر لتصبح دولة كبيرة غنية متقدمة. كلام الرئيس عن مصر التى هى «أد الدنيا»، وعن أن المصريين لم يعرفوا الدولة الحقيقية -ربما يقصد الدولة الحديثة- بعد، وعن جعل مصر ضمن أكبر ثلاثين اقتصاداً فى العالم كما ورد فى خطة 2030، كل هذا يشير إلى ما يحلم به السيسى لمصر. الاستثمار الهائل فى البنية التحتية من طرق وموانئ ومطارات وممرات مائية وصوامع غلال ومحطات الطاقة، كل هذا يشير إلى الرؤية التى يتبناها الرئيس. إنها نفس الرؤية التى سبق أن ألهمت محمد على وجمال عبدالناصر مخصوماً منها الطموحات الخارجية الكبرى التى يبدو أن الرئيس السيسى يراها عبئاً على إمكانيات نجاح مشروعه لإعادة بناء مصر حديثة وقوية وغنية، وهو محق فى ذلك، فطموحات محمد على وجمال عبدالناصر الخارجية كلفت البلد فوق طاقتها، وكانت سبباً رئيسياً فى إجهاض مشروع بناء مصر الحديثة.
الرئيس السيسى لا يستبعد الديمقراطية ضمن رؤيته لمصر المستقبل، فالديمقراطية تظهر فى أحاديثه عن مصر المستقبل بشكل قليل ومتفرّق، بما يُفهم منه أن الديمقراطية موجودة ضمن رؤيته ولكنها لا تحتل سوى مرتبة متأخرة فى رؤية الرئيس. ومن غير الواضح وفقاً لما يصرح به الرئيس ما إذا كانت الديمقراطية -حين يحين أوانها- ستتحقق تلقائياً نتيجة النجاح فى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أم أن جهداً خاصاً سيتم بذله فى هذا السبيل، وإن كان أوان البدء فى هذا الجهد لم يأت بعد.
وفقاً لهذه الرؤية تتحدد علاقة الرئيس بجماعات النخبة وفئاتها، إذ لا يبدو أن للرئيس مشكلة مع النخب التكنوقراطية، وفى المجالس المتخصصة التى يستعين بها الرئيس عدد كبير من التكنوقراط الممتازين المقبلين من خارج جهاز الدولة، بل ومن خارج البلاد أيضاً. اعتماد الرئيس على هؤلاء ينسجم مع رؤيته لمصر كبلد يحتاج إلى عملية إعمار وبناء طويلة وعميقة تطال كل نواحى الحياة فى البلاد. بعض هؤلاء لديه رؤية فنية ممتازة لمجالات مثل النقل والطرق والطاقة والتنمية الزراعية، وبعضهم الآخر لديه -بالإضافة إلى ذلك- رؤى أكثر اتساعاً تشمل جوانب عدة من عملية التنمية. المعرفة الفنية الدقيقة هى المؤهل الرئيسى الذى يرشح بعض التكنوقراط للعمل ضمن الفرق المعاونة الرئيس، أما التكنوقراط العموميين أصحاب الرؤى التنموية التى تركز على الخطوط العريضة وفلسفة السياسات التنموية دون ارتباط بمعرفة وخبرة فنية محددة فليسوا من النوع المفيد للرئيس فى هذه المرحلة.
ليس لدى الرئيس ثقة كبيرة فى النخب المقبلة من جهاز الدولة، باستثناء ذوى الخلفية العسكرية، فالبيروقراطية المدنية أصابها التكلس والكسل والفساد فتحولت إلى عبء على عملية التنمية. المؤشر القوى على يأس الرئيس من النخبة البيروقراطية نجده فى التعديل الوزارى الأخير الذى أتى بعدد كبير من التكنوقراط غير الحكوميين لمنصب الوزارة. الخبرة الواسعة التى اكتسبها الكثير من الوزراء الجدد فى القطاع الخاص توحى بأن الرئيس يحب الطريقة التى يعمل بها القطاع الخاص، حتى وإن كانت لديه شكوكه فى القطاع الخاص نفسه، خاصة نخبة المال من المستثمرين الكبار، الذين يرى فيهم الرئيس أنانية مفرطة، كما أن لديه أسباباً للقلق من توظيفهم لما تحت أيديهم من موارد اقتصادية لزيادة نفوذهم السياسى.
الموقع المتأخر للديمقراطية على جدول أعمال الرئيس هو السبب فى العلاقة المتوترة بينه وبين جماعات النخبة السياسية والثقافية. من وجهة نظر الرئيس، تتسم جماعات النخبة المثقفة بعدم الواقعية وضعف الصلة بالواقع، وهم أقرب فى تصرفاتهم لجماعة مطلبية لا يشغلها سوى الاستجابة لمطالبها، وهى بعيدة عن أن تكون جماعة تفكير استراتيجى تربط الأهداف الكبرى بالموارد المتاحة والقيود الفعلية والمديات الزمنية اللازمة لتحقيقها. غياب التفكير الاستراتيجى عن جماعات النخبة يجعلها تفضل رفع الشعارات التى تخطف الأبصار وتأخذ الألباب بديلاً لتطوير الخطط العملية القابلة للتنفيذ التى تنقل البلاد خطوة إلى الأمام. النخب الثقافية والسياسية بهذا المعنى هى جماعات مطلبية واحتجاجية بإمكانها تعطيل البناء، دون أن يكون بمقدورها المساهمة فيه، وبالتالى فإن السياسة الملائمة للتعامل معها هى مزيج من سياسات التهميش والاحتواء وتخفيف الضرر، أما سياسات الشراكة فهى تبدو مستبعدة لأن نخب السياسة والثقافة لا تبدو مؤهلة لها بعد.
رؤية الرئيس لنخب الثقافة والسياسة فيها جزء كبير من الحقيقة، لكن فيها أيضاً الكثير من المشكلات، ولكن السؤال يظل مطروحاً عما إذا كانت نخبنا الثقافية والسياسة قادرة على إعادة تقديم نفسها للرأى العام ومؤسسات الحكم كنخب مسئولة جديرة بالشراكة تستحق ما هو أكثر من الطريقة التى يتم التعامل بها معها الآن.