من الأمور التى يختلف الناس حولها وتُتخذ مدخلاً للتراشق بين المختلفين فى توجهاتهم لمحاولة كل فريق النيل من صاحبه، قضية «الخلافة» التى يُراد بها نظام الحكم الذى أعقب وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، واستمر حتى ألغاه مصطفى كمال أتاتورك فى عام ١٣٢٤هـ/ ١٩٢٤م، وكان هذا النظام يقوم على فكرة الحاكم الواحد الذى يدين له المسلمون مهما تباعدت أقطارهم، وينوب عن الخليفة ولاة يحكمون باسمه فى الأمصار. ورغم انتهاء هذا النظام وتبدل الأحوال وتحول الأقاليم والأمصار التى كانت تحت مظلة نظام الخلافة إلى دول تختلف فى ما بينها فى تبنى نظام حكمها بين رئاسى وملكى وسلطانى وأميرى، ومع أن واقع الحال ينفى إمكانية عودة نظام الخلافة، لا سيما فى ظل التفاوت الثقافى والاقتصادى والفواصل الجغرافية التى قد تفصل بعض الدول الإسلامية عن شقيقاتها بعدة دول غير إسلامية؛ رغم كل ذلك، فإن قضية الخلافة ما زالت من القضايا التى تحظى بكثير من التجاذب بين الفرقاء، فيرى البعض أنها النظام الأوحد الذى ينبغى أن يحكم المسلمين، ولا يجيزون تعدُّد الحكام فى بلاد المسلمين، ولا يكتفى بعضهم بتبنى هذا الرأى، بل يحرصون على تكوين حزب أو أحزاب تبذل قصارى جهدها فى سبيل استعادة «الحلم المفقود» بشتى الطرق، حتى إن بعض جماعات العنف تتسمى بمسميات توهم بأنها المنوط بها استعادة نظام لا يستقيم حال المسلمين من دونه، بل إن بعضها يُبرر تبنيه للعنف بهذا الهدف كتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام، المعروف باسم «داعش»، وغيرها من جماعات الإرهاب والعنف التى تتستر بالدين وتزعم تبنيها فكرة استعادة نظام الخلافة، وتتخذها مطية لتبرير أعمالها، بينما يتخفّف آخرون ممن يتبنون هذا التوجُّه، فيصححون أنظمة الحكم القائمة من أجل «الضرورة»، إلى أن تتهيّأ الأمة لاستعادة خلافتها الضائعة!
والحق الذى يؤمن به من يدركون مقاصد الشريعة وطبيعة أنظمتها أن الخلافة نظام حكم دنيوى، ليس من أساسيات العقيدة التى يجب الإيمان بها، وأنها وإن تعارف عليها السابقون وارتضوها نظاماً لحكمهم يحقق مصالحهم ويضبط مسيرتهم ويراقب انتظام الحقوق والواجبات، لينتهى الظلم ويسود العدل، فإنه نظام غير لازم ولا جامد على صورته الأولى، وأنه متى تراضى الناس على غيره من الأنظمة، انتقلوا إليه دون أن تكون فى ذلك مخالفة لشريعة الإسلام، فهى تستوعب جميع الأنظمة التى يتعارَف عليها الناس فى زماننا، وما يستجد فى أزمنة مقبلة، والعبرة بانتظام الناس على مبادئ شرع الله، ولا يضرهم اسم النظام الذى يحتكمون إليه. والذى يُقوى هذا الاتجاه، فضلاً عن أنه حال واقع يصعب تغييره، ما لم يكن مستحيلاً أصلاً، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، الذى علم أنه ميت: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)، والذى لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أتم لنا الدين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)، لم يُعيّن خليفة بعده ولم يُحدد للأمة طريقة اختياره، ولو كان نظام الحكم متعيّناً فى الخلافة أو غيرها من النظم واعتباره من أصول الدين؛ لبيّن ذلك النبى، صلى الله عليه وسلم، ورسم طريقه وألزمنا باتباعه، لكنه لم يفعل، بدليل اختلاف صحابته بعد وفاته اختلافاً كبيراً فى اختيار خليفة له حتى كادت تقع فتنة كبرى بين المهاجرين والأنصار، ثم بين المهاجرين أنفسهم بعد أن سلم الأنصار بأحقية المهاجرين فى خلافة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى أن استقروا فى النهاية على خلافة أبى بكر الصديق، رضى الله عنه.
ومع أن الحاكم فى ظل نظام الخلافة واحد، إلا أن طريقة اختيار هذا الحاكم تنوعت بين خليفة وآخر، ولم تكن على نمط واحد، فكان اختيار «الصديق»، رضى الله عنه، بنظام أشبه بنظام الانتخابات العامة فى زماننا، بينما عيّن «الصديق»، رضى الله عنه، سيدنا عمر بن الخطاب، ليكون خليفة من بعده، واختلفت طريقة اختيار سيدنا عثمان عنهما؛ حيث سمّى سيدنا عمر سبعة يُختار من بينهم خليفة بعده، وحدّد فئة من الناس يناط بهم اختيار الخليفة من بين هؤلاء السبعة، وهو نظام أشبه بالأنظمة البرلمانية فى زماننا؛ حيث تعتمد بعض الدول فى اختيار رئيس الدولة على أعضاء البرلمان، ثم كانت الخلافة فى عهد الأمويين والعباسيين، ومن بعدهم أشبه بالأنظمة الملكية فى زماننا، حتى انتهى نظام الخلافة فى أوائل القرن العشرين، دون أن تستقر على طريقة اختيار واحدة لخليفة المسلمين، وهذا يدل فى ذاته على أنها أنماط مختلفة، فإن كان التنوع فى طرق اختيار الخليفة الواحد مقبولاً؛ فلِمَ لا يُقبل تعدُّد الحكام الذين يحكمون الناس؟! ولماذا يظل البعض يبذلون الوقت والجهد فى أمر لا طائل من خلفه إلا تعميق الخلاف وترسيخ الشقاق بين المسلمين، واستغلال هذا الأمر فى ارتكاب الموبقات وسفك دماء الناس تحت ذريعة استعادة نظام الخلافة، والإسلام من ذلك براء؟!
وعليه، فإن نظام الحكم لا يتعين فى نظام الخلافة ولا يقتصر عليه، وإن ناسب هذا النظام أزمنة، فأصلح حال الناس ونظم علاقتهم بخالقهم وعلاقاتهم فى ما بينهم، وإن شريعتنا الغراء تستوعب كل أنظمة الحكم السائدة فى زماننا، على اختلاف مسمياتها، ما دام الناس يرتضونها نظاماً لحكمهم، وعلى أصحاب التوجهات والأغراض السياسية التوقّف عن استخدام فكرة استعادة نظام الخلافة ذريعة للخروج على أنظمة الحكم المستقرة وترويع الآمنين وسفك دماء الأبرياء والتعرّض لأعراضهم ودمائهم بغير حق، وليعلم هؤلاء أن سعيهم باطل، وأنهم من المفسدين فى الأرض المحاربين لله ورسوله ويصدق عليهم قول ربنا جل وعلا: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».