محمد جبريل
ع البحري .. الأبناء يأكلون أمهم!
طبيعي ان الأرض تأكل بنيها. يعيشون فوقها حتي يأتي الأجل. فيدفنون تحتها. تتحول الأجساد ـ كما يقول بيت الشعر للمعري ـ إلي أديم الأرض أو ـ علي حد تعبير العالم الراحل عبدالمحسن صالح ـ إلي سباخ يحفظ لخصوبة الأرض تجددها.
ما تعانيه الأرض المصرية ـ منذ عقود قريبة ـ إصرار علي تبديل المعني. الأبناء هم الذين يأكلون أمهم الأرض!
طالعني المشهد القاسي والسيارة تمضي في طريق القاهرة ـ الإسكندرية الزراعي. مئات البنايات العالية. بعضها يصل إلي أعلي من خمسة وعشرين طابقاً. أقيمت في قلب الأرض الزراعية بعد تبويرها ليس بمساحة البنايات الأبراج وإنما بالمساحات الممتدة حولها ما يشبه سبق الإصرار والترصد علي اغتيال ثروتنا الزراعية. الشريان الرئيسي لحياة البشر.
أذكر ما حدث منذ سنوات ليست بعيدة. حين شاهد الوزير السابق سليمان متولي بناية من ستة طوابق علت كالخازوق في انحناءة الطريق الزراعي بالقرب من طوخ. نزل الوزير من سيارته وطلب إبلاغ مالك البناية بضرورة إزالتها لأن الطريق زراعي والتجمعات السكانية موضعها في الداخل تطل علي الزراعات لكنها لا تستولي عليها. لا تأكلها.
كان تحذير الوزير صرخة في واد. لم يعبأ أحد بسماعها وتحولت البناية الوحيدة بتوالي السنين وبالفوضي التي أعقبت ثورة 25 يناير تحديدا إلي أبراج متلاصقة علي طول الطريق الزراعي ألغت معظم مساحة الزراعات وما تبقي يعاني الوفاة الإكلينيكية بتأثير الحصار القاسي الذي تعيشه المساحات القليلة المتناثرة من الأرض الطينية.
قوانين حماية الأراضي الزراعية وإزالة البنايات المخالفة قائمة منذ عهد يوسف والي حل بعده وزراء آخرون لكن المأساة علي حالها قضم الأرض ظاهرة متجددة بما يكاد يلتهم الخضرة.
الطرق ـ والمؤسف ـ ان مداخن قمائن الطوب أعلي من مآذن المساجد علي جانبي الطريق تطبق المثل "من دقنه وافتل له" يقتلون الأرض يحيلون طينها إلي طوب أحمر تشيد به البنايات.
أثق ان الشعور بالصدمة الذي عانيته وأنا أشاهد مأساة تدمير أرضنا الزراعية قد أصاب غيري من ملايين المصريين وإذا كان شعور الصدمة قد ذوي أو تلاشي فإن الكارثة ستظل باقية من غير المتصور أن تتآكل أرضنا الزراعية في حين ان أكثر من 90% من أرض مصر صحراء!