الأهرام
حسن ابو طالب
سياسيون ومثقفون عكس التاريخ
من قبيل المصادفة، وقطعا لا أحد تحكم فى الأمر سوى القدر، أن نرى ونشاهد صراعا سياسيا داخل أحد الاحزاب العريقة يقوم على الحشد والاعتصام فى المقر من أجل فرض تغييرات معينة فى أداء الحزب تحت مسمى إصلاح ما أفسده الرئيس الحالى للحزب. وقد يقول قائل إن هذه هى السياسة فى بلادنا، لكن ماذا نقول حين نرى أزمة اتحاد الكتاب، وهو بيت المثقفين المصريين، وهم صفوة المفكرين والمبدعين تصل إلى حد عزل الجمعية العمومية لرئيس مجلس الإدارة، بعد أن تمت عدة استقالات من أعضاء مجلس الإدارة فى وقت سابق اعتراضا على سياسات رئيس المجلس، والذى بدوره قدم مذكرة رفض فيها قرار الجمعية العمومية، غير أن المستشار القانونى لوزارة الثقافة أقر بصحة انعقاد الجمعية العمومية وصحة ما صدر عنها من قرارات.

الواقعتان من حزب الوفد واتحاد الكتاب تكشفان إلى أى مدى وصلت السياسة فى مصر موصولة بالإدارة معا. حيث لم تعد هناك ضوابط واضحة يمكن من خلالها إدارة الأزمات، والتى هى شئ طبيعى ودليل على الاحتكاك والتدافع وتباين المصالح، وبحيث يتم الوصول إلى حلول توافقية تدفع بحركة المؤسسة أو الحزب إلى الأمام بدلا من أن يغرق الجميع فى أتون الخلافات والانقسامات، التى بدورها تعمق الإدراك العام بأن مصر تفتقد إلى السياسيين المحنكين القادرين على إعمال العقل والحكمة بدلا من ترك العواطف والمشاعر تتعالى إلى السماء وبالتالى تفقد العقل قدرته على التفكير السليم، وتكون النتيجة أن تهتز المؤسسة أو الحزب وتفقد بريقها ويتخلى عنها الأعضاء والمتعاطفون على السواء.

وإذا كان من حق أحد أن يطالب بإصلاح أو ينادى بتغيير النهج، فمن الأحق والأوفق أن يكون ذلك وفق القواعد المتفق عليها من قبل، والتى يُحتكم إليها ومن خلالها يتم إثبات شرعية الموقف أو خروجه عن مقتضيات تلك الشرعية. أما أن تكون المطالب مصحوبة بكسر للقواعد وفرض للرأى بالعنف فهنا تصبح تلك المطالب بمثابة هدم لمعنى المؤسسية ومعنى القواعد والمعايير ومعنى الالتزام. وما جرى فى حزب الوفد يماثل ما يقوم به البعض من مسيرات أو مظاهرات مخالفة للقانون المنظم للتظاهر، فى مسعى لاثبات أن النظام والحكومة ضد حرية الرأى والتعبير، وأن الأمور عادت إلى سيرتها السابقة. ولا يلتفت كثيرون من المنادين بدولة القانون كشعار رئيسى للثورة وفى الآن نفسه يدافعون عن كسر القانون، لا يلتفتون إلى أى مدى يقدمون صورة تتسم بالنفاق السياسى الممجوج أمام المواطن البسيط الذى لم يعد من السهل خداعه. وبدلا من أن يكون الحزب، أى حزب، مثالا لتطبيق القواعد والالتزام بها وتصدير صورة إيجابية عن أهمية الحزب فى الحياة السياسية، إذا به يُصدر صورة مرفوضة ومليئة بالخلل، مما يجعل المدافعين عن مزيد من حرية العمل للأحزاب باعتبارها أساس الحياة الديمقراطية التى نسعى إليها ونطالب بها، مصابون بالإحباط.المثقفون هنا ليسوا بعيدين عن المسئولية فيما هو حادث من مظاهر عبثية، وعليهم دائما عبء تقديم المثل والنموذج فى كيف يكون المثقف داعية للتغيير والنهوض بحال الأمة والالتزام بالقانون ومحاربة الفساد فعلا وقولا ومراعاة المصالح والقواسم المشتركة للمواطنين جميعا بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية والاجتماعية، وليس داعية للابتذال والإثارة وكسر القانون بمسمى الثورة الدائمة التى لا نهاية لها، والتى تقود حتما إلى الفوضى والخراب.

وحين نرى حال السياسيين أو قسم منهم يتطلع إليهم كثيرون، وكذلك المثقفون أو قسم معتبر منهم، لا يحسنون إدارة ملفاتهم الداخلية، فكيف لنا أن نتوقع من عموم الناس الأقل خبرة ودراية والذين يسهل التأثير عليهم من هذا الطرف أو ذاك. ولاشك أن أحداث السنوات الخمس الماضية أشاعت فى المجتمع، فى كل طبقاته وفئاته، ممارسات أقل ما توصف بأنها فوضوية، كسرت هيبة السلطة وأطاحت بقيمة القانون كعنصر أساسى فى تنظيم الأداء العام، وفتحت المجال واسعا أمام ممارسات تفتقر الانضباط والحكمة والمسئولية، ونرى ذلك فى العديد من الأشياء حولنا، ولعل ما يموج به الاعلام من ارتباك وافتقار للمسئولية المجتمعية يجسد المعنى خير تجسيد. وإذا لم ينتبه السياسيون أصحاب الحظوة لدى المجتمع وكذلك المثقفون كأصحاب الفكر ودعاة الحكمة والإعلاميون المروجون للقيم فى وضعنا الراهن إلى هذا المأزق الذى يمر به المجتمع المصرى الآن، وقاموا بإصلاح أنفسهم أولا وقدموا للبسطاء والعموم من الناس القدوة المطلوبة للاصلاح الذاتى، سوف تستمر الأزمة السلوكية المجتمعية موجودة وتضيع معها كل مساعى النهوض وتجسيد دولة القانون.

أعرف أن الشائع والأسهل هو تحميل النظام الحاكم، والرئيس شخصيا، المسئولية عن كل كبيرة وصغيرة، وعن كل تراجع يحدث وكل أزمة تندلع، وهو موقف غير موضوعى جملة وتفصيلا، فمن ناحية يلغى مسئولية الأفراد عن الأزمات التى يخلقونها لأنفسهم ولغيرهم ويجلعهم يشعرون بالراحة أنهم غير مسئولين وأن طرفا آخر عليه أن يحل الأزمة ويحدث التغير المطلوب. وهو موقف سلبى يتصادم بقوة مع فكرة المواطنة التى تجمع بين الحق والواجب.ومن ناحية ثانية أن مسئولية تغيير المجتمع وأدائه ليست مسئولية الحكومة والسلطة التنفيذية وحسب، بل هى مسئولية مشتركة بين كل مكونات المجتمع، إنها مسئولية الناس أنفسهم بأحزابهم وسياسييهم ومثقفيهم وإعلامييهم وجمعياتهم الأهلية ورجال الدين والمعلمين فى المدارس والاساتذة فى الجامعات والعمال فى المصانع وفى الورش وكافة مواقع العمل، وكلما كان هؤلاء أكثر حرصا على الالتزام بالقواعد والقانون والتمسك بمصالح الوطن العامة التى لا خلاف عليها، كلما كان المجتمع اقرب إلى تحقيق طموحاته وتطلعاته فى زمن قياسى.

الثورة الحقيقية تحدث فى نفوس الناس وفى سلوكياتهم نحو الأحسن والأفضل، ونحو الدقة فى العمل ونحو الحكمة فى اتخاذ القرار، ونحو الابتعاد عن التسرع فى المواقف قبل دراستها والتعرف على مختلف جوانبها. الثورة الحقيقية هى التى تعرف ماذا تريد من الحاضر وتوظفه من أجل المستقبل بالعلم والمنهج وليس بالشعارات الزائفة والأصوات الزاعقة. وإن أردنا ثورة حقيقية فى مصر فعلى كل مصرى أن يثبت جدارته بالعلم والاتقان وتحمل المسئولية وليس أى شئ آخر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف