وقفت فى الطابور للحصول على تأشيرة خروج إلى فرنسا، ولدى وصولى إلى موظف الجوازات وفحص جميع الأوراق والمستندات التى قدمتها وتفيد باستقالتى من شركة القطاع العام التى كنت أعمل بها، ابتسم الرجل ابتسامة لزجة وهو يسألنى عن شهادة ليسانس الحقوق!!.. استغربت وقلت له، أى ليسانس؟.. أمامك ما يفيد بأننى استقلت من العمل محامية بهذه الشركة وكل ما يلزم من أوراق لمنحى تأشيرة الخروج، حيث كانت موافقة جهة العمل ضرورية فى حينه، ثم من أين لى بالليسانس الذى حصلت عليه منذ عشر سنوات؟.
اتسعت ابتسامة الرجل وازدادت لزوجته وهو يقول ببرود مثير: عايز الليسانس.. توجهت إلى مكتب رئيس مصلحة الجوازات وأعتقد أنه كان اللواء عصام الرمالى وعرضت عليه الأمر وأنا أردد: ممكن ألا أكون محامية وأنا حاملة ليسانس، لكن يستحيل أن أكون محامية وعضو نقابة المحامين دون حصولى على ليسانس الحقوق.. نظر إلى الرجل بإشفاق وكتب تأشيرة تطالب الموظف اللزج بمنحى التأشيرة فورا.. وعندما رآنى الرجل مرة أخرى فى الطابور صرخ متشنجا: يا ست انتى، مش قلت لك هاتى الليسانس؟.. نظرت إليه بتشفٍّ وأنا أشير إلى تأشيرة السيد اللواء وأقول له بهدوء الواثقة: اقرأ التأشيرة.. امتقع وجهه وكأننى قتلت والده وأنا أغوص فى ذهولى أكثر فأكثر بحثا عن سبب لعدائه الغريب.. المهم، حصلت على التأشيرة.. وفى أثناء خروجى من القاعة تنبهت على صوت الموظف الموجود بمدخل القاعة.. «كان يمكنك الحصول على التأشيرة فورا، لو أنك وضعت عشرة جنيهات داخل الجواز»!.انتابنى شعور بالفزع وأنا أقول له إن ذلك يعنى أنه يكفى لجاسوسة، مثلا، وضع خمسين جنيها رشوة لحصولها على تأشيرة خروج.. كان رد الرجل ابتسامة مستسلمة للوضع الجديد، بعد سنوات من سياسة الانفتاح التى عمقت الفجوة بين المصريين بما يفوق عهد الإقطاع التى جعلت الهوة بين الأجور والأسعار باتساع المسافة بين السماء والأرض.. منذ ذلك اليوم فى نهاية ديسمبر عام 1976، وأنا أتابع التغيرات الرهيبة التى أحدثها «الانفتاح» فى الشخصية المصرية وبشكل خاص فى القطاع الإدارى.. وربما كانت كارثة تحول بعض رجال الشرطة إلى ناضورجية لدى عصابات المجرمين لقاء مبالغ مالية تبدأ بالمئات وتصل إلى الملايين، التى تم الكشف عنها أخيرا، هى النتاج الطبيعى لسياسة الانفتاح، «السداح مداح» كما وصفه كاتبنا العظيم الراحل أحمد بهاء الدين، وكذلك غض الطرف، لقاء ثمن يحدده الراشى والمرتشى، فى المحليات وهو ما حول المدن المصرية إلى عشوائيات قبيحة، متلاصقة، شاهقة الارتفاع، دونما أى اعتبار لقوانين البناء وباطمئنان بالغ للبناء فوق الأراضى الزراعية بثقة مطلقة فى عدم الحساب.. انتشار الرشاوى من أعلى المناصب حتى أدناها، يندرج فى ظنى فى إطار مخطط لتشويه الهوية المصرية، بدءًا من فساد الذوق واندثار القيم التى تربت عليها أجيال مصر منذ فجر التاريخ حتى حقبة الانفتاح المفزعة وكل ما صاحبها من سلبيات.. يكفى مشاهدة فيلم مصرى قديم ترفض فيه الأم «أموال ابنها الحرام»، بينما يفرش البعض الآن السجادة الحمراء للصوص المال العام والمتاجرين فى أقوات الشعب.. لقد كان لدينا قانون «من أين لك هذا»، تم إلغاؤه رسميا وعمليا، فبات المرتشون يشعرون بالأمان وبأنهم بمنأى عن الحساب.. ويحضرنى بهذا الصدد، مبدأ المحاسبة وفق القانون الفرنسى، تحت شعار «المظاهر الخارجية للثراء» أى المقارنة بين الدخل ومستوى المعيشة، إذ لا يعقل مثلا، أن يسكن موظف عام، يتقاضى راتبا محدودا، فيلا فاخرة ويركب سيارة فارهة باهظة الثمن..
وهنا يتوجب سؤاله: من أين لك هذا؟.. وأعترف بأننى من هؤلاء الذين انتابهم الفزع من قضية رجال الشرطة الذين وضعوا أنفسهم فى خدمة المجرمين بدلا من خدمة الشعب، ولكن الوقفة التى قررتها الدولة لتطهير هذا الجهاز الحيوى الخطير، تبعث الشعور بالأمل وبأن أول الغيث قطرة.. وكذلك لا بد من تأمل وضع الأجور.. فقد كان كيلو الأرز بثلاثة قروش فى الستينيات، فقفز اليوم إلى أكثر من ثمانية جنيهات!!.