لا يعلم الكاتب إذا كانت السيدات والسادة من القرّاء على اطلاع واسع بالمآسى البريختية (نسبة إلى «بريخت») ذلك المسرحى الشهير أم لا!! ولكن تكاد تكون هذه المسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» هى الأجمل بين مسرحيات/مآسى «بريخت» بعد «الأم شجاعة»، نظراً لما تحمله من فلسفة عميقة تحملك بين الإنسانية المجردة للثورة الغارقة فى الرومانسية وصولاً للسياسة المليئة بالخبث.. لعل هذه المسرحية تقترب فى تماس ظاهر مع الواقع المصرى الذى لا يقل مأساوية عن مسرحيات «بريخت».
تتلخص المسرحية فى قصة الملكة التى كانت لها طفل صغير قامت الخادمة بتربيته ورعايته منذ صغره، ولكن ثورة شعبية أطاحت بحكم الملك والملكة فهربا إلى خارج البلاد، بينما ظلت الخادمة تسهر على رعاية الطفل ليل نهار، وتشاء الظروف بعد عدة سنوات أن يعود الملك والملكة إلى حكم البلاد، ومن ثم تطالب الملكة بطفلها من الخادمة «جروشا» فترفض تسليمه لها فيرفع إلى القضاء، ويقوم القاضى وهو فى حيرة من أمره لمن يحكم بأحقية الطفل فيستعين بتجربة دائرة الطباشير. وطالب الملكة الأم الحقيقية للطفل والخادمة الأم التى سهرت على رعايته منذ صغره وحتى بلوغه سن الرشد بأن تجذباه بالقوة إلى خارج الدائرة.
وتنتهى الأحداث بحالة غير المتوقعة بانتصار الأم الملكة التى جاهدت فى جذب ابنها من خارج الدائرة، بينما الخادمة «جروشا» الأكثر رأفة وحناناً لم تستطع فعل ذلك خشية من أن يؤذى الصغير.. هنا رأى القاضى أن الأم الخادمة كانت أكثر حناناً من الأم الحقيقية؛ ألا وهى الأم الملكة التى تعاملت مع الأمر بلغة القوة والقسوة، فحكم للأم التى ربت (الخادمة) بحقها فى رعاية الطفل. فالحكم لـ«جروشا» الخادمة أن يكون الطفل من نصيبها كان لأنها أنقذته بعد الثورة على أبيه الحاكم. وأشرفت على تربيته، وليس للأم التى تخلت عنه. ويعتقد الكاتب أن «بريخت» يرمى لمعنى واضح أن من له القدرة الكافية على الاحتفاظ بالشىء والاهتمام به هو الأحق به ولكن ما علاقة هذا بالسياسة والثورة فى مصر؟! هذا ما سوف يُجاب عليه لاحقاً.
لكن فليسمح القارئ بمحاولة لفهم شخصية «جروشا» عند «برخت» التى تتجلى فى جملة من الصراعات بين الدين والتقاليد والسلطة، لذلك هى أسيرة مجتمع قروى يحاول هدم شعور الأمومة عندها بينما هى تكافح من أجل إبقاء هذا الشعور الطبيعى فى الحياة وبناء إنسان جديد تمثل بالطفل!!
أى من الممكن أن يكون الهدف الذى يرمى إليه بريخت هنا أيضاً هو كسر المألوف أو التغلب على ما هو معتاد بل وتغليب الفطرة السليمة.
ثم تنتهى المسرحية بجملة تقطع شكوك القارئ بيقين من بريخت والكاتب حين يقول «احفظوا حكمة الأقدمين: إن الأشياء ينبغى أن تعطى للذين يقومون عليها خير قيام؛ فالأولاد للأمهات اللواتى يرعينهم خير رعاية حتى يشبُّوا ويترعرعوا، والوادى للذين يحسنون سقيه حتى ينتج خير الثمار».
وما علاقة هذا بما تموج به من أحداث سياسية منذ اندلاع ثورة ٢٥ يناير وحتى لحظة كتابة هذا المقال وربما لسنوات ليست بالقصار مستقبلاً؟!
المسألة هنا تكمن فى الإطار العام للمجتمع المصرى الذى يؤثر المألوف دون تغيير حتى ولو كان هذا التأثير إيجابياً بشكل فاعل، بل ويركن إلى كل ما هو تقليدى حتى ولو تعدى مفهوم الرتابة ليصبح ضاراً شديد الضرر، وبالتالى يذهب إلى مقاومة التغيير فى أى شكل من أشكاله بينما تكافح قوى سياسية ومثقفون أو نُخَب لإحداث التغيير الذى هو سمة طبيعية فى الحياة بل ومحاولة لبناء إنسان جديد، على صعيد آخر تجد المؤسسات الرسمية والأبنية البيروقراطية سواء فى حالة التغيير أو عدمه أن من حقها الحصول على ثمار أو نتائج الموقف، ولكن ليس عن طريق الاندماج وإنما فقط بالقوة التى قد تكون غاشمة أحياناً أو قوة الوجود فى أماكنها بوقت طويل!! بصرف النظر عن صاحب الفضل الحقيقى فى التغيير سواء سمّاه القارئ ثورة أو سماه إصلاحاً!!
لكن هل هذا يعنى أن القوى السياسية فى مصر مرفوع عنها الحرج أو هى المنزهة عن كل نقص!! الإجابة القاطعة (لا) ودون الدخول فى تفاصيل عدة حول خيبات أو سقطات أو نقاط ضعف وإضاعة الحبر والورق والوقت فى إحصائها، إلا أن الخطيئة الكبرى هى أن هذه القوى شاركت فى تعقيم (عقم) نفسها منذ ثورة ٢٣ يوليو، فهى لم تستطع خلق تنظيم لنفسها لا على المستوى الأيديولجى ولا على مستوى المصلحة الوطنية الجامعة إذا أُجيز التعبير، فقد كان المشهد العام خالياً من السياسة طيلة الـ٦٦ عاماً، إلا من حوادث استثنائية كمظاهرات ١٩٧٧، فلم تفلح هذه القوى فى خلق تنظيم رصين يستطيع وضع بدائل وخيارات التنافس الطبيعى بينها وبين ما يمكن أن تطلق عليه تنظيم الدولة على اختلاف أشكاله بين فترات حكم عبدالناصر أو السادات أو مبارك أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو مرسى أو السيسى.. فكان هناك دائماً حزب أو تيار أو جماعة هى المحسوبة على الدولة أو طبقة الحكم، وبالمقابل تيارات شتى فى حالة تشرذم يمتلئ بالخلاف ولا يعطى أملاً فى خلق البدائل للمنافسة السياسية!!
كان المشهد اللافت هو شكل التعامل بين المجلس الأعلى وجماعة الإخوان الذى كان تصرفاً طبيعياً لقادة الجيش المصرى آنذاك، فلم يجدوا تنظيماً سوى جماعة الإخوان للتفاوض معه أو للمناقشة حول بدائل أو خيارات أو حتى فرض أمر واقع، حتى وصل الحال إلى وصول هذه الجماعة إلى الحكم وبدورها فرضت سيطرتها وصار لها حزبها المتحكم وأمامها شراذم حزبية!!
السؤال هنا للقوى السياسية الطامحة: هل تقديم الحلول والبدائل السياسية لا يحتاج منكم إلى خلق تنظيم شامل جامع يتخطى مسألة الخلاف الأيديولوجى؟ أو تقديم كوادر جديدة للمنافسة فى انتخابات المحليات والبرلمان ومقعد الرئاسة!
يعلم الكاتب جيداً أنه على الدولة أيضاً توفير مناخ قانونى يسمح بممارسة سياسية ناضجة، وهو الأمر الغائب الآن ولكن وجود تنظيم واضح يعمل وفق خطة منظمة ويعمل على خلق الكوادر هو أمر لا يمكن للدولة تجاهله فهو أمر واقع.. فَلَو تصورنا أن مجموعات حزبية ومستقلين داخل مجلس الأمة اتخذوا قرار الاتحاد فى ائتلاف معلن وله هيئة مكتب ومتحدث وزعيم كتلة ومن ثم حكومة ظل، هل كنّا سنرى النائب خالد يوسف يقف وحده وبدعم من متردد من مجموعة أخرى من النواب مندداً ببرنامج الحكومة الهزيل؟!
لنا فى هذا حديث قريب من واقع قراءة حول الحرب الأهلية الأمريكية والتعديل الثالث عشر للدستور الأمريكى الذى تسبب فى اغتيال «لينكولن» الذى وصل من البيت الخشبى إلى البيت الأبيض.
إن أرادت المعارضة المصرية أن تصل للحكم فيجب أن تستحق ذلك أو كما قال بريخت:
«الأولاد للأمهات اللواتى يرعينهم خير رعاية حتى يشبوا ويترعرعوا، والوادى للذين يحسنون سقيه حتى ينتج خير الثمار».