عبد الجليل الشرنوبى
وزارة التوريط «الداخلية سابقا»
فى أثناء افتتاح المقر الجديد لوزارة الداخلية المصرية، انفعل الرئيس عبد الفتاح السيسي حين واجهته العقلية الأمنية التي تدير، وأخرجه انفعال المفاجأة من حيز البروتوكول إلى خانة المواجهة بالأخطاء الجسيمة على مستوى التفكير الأمني، وكانت المواجهة على الهواء مباشرة ليدرك الجميع أن الرئيس بات مطالباً أن يتجاوز حدود الفعل الرئاسي إلى الفعل الوزاري المتخصص.
وعلى قدر انفعال الرئيس المطالب بتطوير العقلية الأمنية ومجاراة العصر وأدواته التكنولوجية اللازمة لمواجهة خطط الاستهداف، جاء رد فعل وزارة الداخلية مباغتاً وسريعاً، لقد قررت الوزارة قيادة وأفراداً أن تؤكد انعزال عقلية الإدارة الأمنية عن الواقع كل الواقع، فبعدما أمعنت في المشهد وفكرت ثم قَدَّرَتْ، قررت أن تقتحم واحداً من القلاع الحصينة في العرف العالمي والقانون المحلي، لقد قررت وزارة الداخلية اقتحام (نقابة الصحفيين) للقبض على اثنين من الصحفيين المطلوبين للتحقيق في قضية نشر!
قبل سنوات ومع آخر انتخابات محليات شهدتها مصر في عهد المخلوع حسني مبارك، كان كاتب هذه السطور وقتها رئيساً لتحرير موقع إخوان أون لاين، ومسئولاً تنظيمياً عن إعلام محافظات القطر المصري، كان ذلك قبل أن يمن الله على مصر وشعبها بانجلاء غشاوة الاستبداد التي حالت دون أن يرى بنور الله حقيقة التنظيم الإخواني، والمهم هنا أن تغطية الموقع الإخواني الصحفية للانتخابات وما شابها من انتهاكات كانت كفيلة بأن تزعج إدارة وزارة الداخلية وعلى رأسها اللواء حبيب العادلي، وداهم زواره منزلي وكنت في سهرة بمنزل الشاعر الكبير نجيب شهاب الدين، واتصلت بي زوجتي لتخبرني بالزيارة، وعندها لم أجد أمامي إلا باب نقابتنا، ولم تكن التهمة وقتها تتعلق بالنشر بل ما ساقه محقق النيابة كان ادعاء بأنني مسئول عن تنظيم اسماه (قادة الشوارع)، وهو مسمى لم يكن له ظل من واقع فحتى التحريات المزعومة كانت (فشنك)! مكث العبدلله معتصماً بنقابة الصحفيين قرابة شهر ونصف حتى خرجت مع وفد من مجلس النقابة ذلم يكن بينهم عضو من الإخوان- ومحاميها إلى نيابة أمن الدولة العليا التي أفرجت عني بكفالة ألف جنيه ولا أعلم على وجه التحديد إلى أين وصلت هذه القضية، وما يهم في هذا المقام أن دولة الفساد والإفساد التي كانت لم تتجاسر وزارة داخليتها على اقتحام النقابة لإلقاء القبض عليّ، ولم يجرؤ العادلي بكل ما أوتي من جبروت السلطة على أن ينتهك حرمة النقابة، ورغم اختلافي حينها مع النقيب الأستاذ مكرم محمد أحمد فإنه لم يسمح بأن تقتحم قوات الأمن نقابة الصحفيين لتصبح سابقة تاريخيه ترتبط باسمه. مضت تلك الأيام ورمانا واقع التجريف الذي عشناه فيها، بمسئولين لا يدركون من تبعيات القرار إلا آليات تنفيذه، ولا يعرفون منطقاً للإدارة إلا شعار أهل البركة في قريتنا (عكها وربك يفكها)، ولا يستشعرون خطورة محدقة بالأوطان إلا تلك التي تطال مستقبل بقاءهم على كراسيهم. فقرر داخلية اللواء مجدي عبد الغفار أن تقتحم نقابة الصحفيين عشية اليوم العالمي لحرية الصحافة، ثم بعدها تصدر بياناً كعادتها- يؤكد أن الوزارة لم تقتحم!
ولئن كانت مصر تخوض حرباً لا نصر فيها إلا باستقرار دعائم الدولة، فمن المنطقي أن يكون كل فعل صادر عن مسئول متسقا مع وعي بحالة التربص الساعية لزعزعة هذا الاستقرار، وكموطنين حرصنا على وطننا نابع من خوفنا على مستقبل أبنائنا فيه، فمن حقنا أن نندهش حين تكون أداءات وبيانات وزارة الداخلية غير متماشية مع حقوق الدماء التي يبذلها أبناؤنا في ساحة المواجهة مع الإرهاب، ومن حقنا أن ننزعج حين تعمل ماكينة الإعلام الأمني على إنتاج بيانات متسرعة يصدرها موظفون منفصلون عن واقع وزارتهم واستهداف وطنهم، ومن حقنا أن نقلق على المستقبل والإدارة الأمنية تدفن رأسها في رمال الواقع المتحركة كلما عصفت بها أزمة أخطاء فردية لضابط أو أمين، ومن حقنا أن نضيق صدراً بقيادة أمنية تصر على تكرار الخطايا وتوسيع الثغرات وتمييع الحقائق، ومن حقنا أن نتشكك في مدى إخلاص الإدارة الأمنية لشعار (تحيا مصر) وهي التي لا يكاد يمر يوم دون أن تمنح للمتربصين بمصر وشعبها من مصوغات الاستهداف أكثر مما تدفعه عنا.
هذه الكلمات ليست موقفاً من شخوص من يديرون في وزارة الداخلية، فلا معرفة لي بشخوص أي منهم، وليست نابعة من قضية اقتحام نقابة الصحفيين وإن كان الحدث قد فجرها ليؤكد، أن هناك خللا في طبيعة العقلية التي تدير ومدى اتساقها مع متطلبات المرحلة، وبالتالي نصل إلى السؤال الأهم والأكثر حساسية (مع من تعمل الإدارة الأمنية في هذه المرحلة؟).
إن مصر باتت على شفا اتهامات بممارسة (الاخفاء القسري)، والقرائن الرئيسة في هذا الاتهام هي بيانات المتحدث الإعلامي باسم الوزارة ومعه المكتب الإعلامي، حتى بدا وكأن الوزارة تستهدف بأداءاتها النجاح في تكريث هذا الاتهام وتحويله إلى جريمة دولية تطارد مصر والمصريين.
ومصر باتت مهددة بالدخول في تصنيف الدول القامعة للصحافة والصحفيين، صحيح هي تهمة كغيرها معدة سلفاً لكن وزارة الداخلية مشكورة منحت من سخي عطائها عشرات المبررات لدخول مصر هذا التصنيف. ومصر حين مَنْ الله عليها بفتح أمني يماثل في أهميته حادث اغتيال النقراشي باشا، بالكشف عن الخلايا التي خططت ونفذت حادث اغتيال الشهيد النائب العام هشام بركات، استطاع المؤتمر الصحفي لوزير الداخلية أن يحيل الحدث التاريخي إلى فعل باهت وقابل للشك بل وكان للإعلام المحسوب على الداخلية دور مسبق في التشكيك بأي نتائج قادمة.
إننا ياسادة نحلم بوطن فاعل المكونات، ومما لاشك فيه أن للذراع الأمنية في هذا التوقيت أهميتها القصوى في درء الأخطار، لكن إدارة وزارة الداخلية اعتبرت أن تطوير العقلية الأمنية يعني أن تنقل مقرها من لاظوغلي إلى القاهرة الجديدة، وأن تحمي المقر الجديد بألف مجند، وأن تستغل براح المكان والأفق في التفكير كيف يمكن أن تورط الدولة كلها في معارك فرعية، لتنجح فيما عجزت عنه ماكينات الاستهداف الداخلية والخارجية. ولتضمن استمرار موظفيها على كراسيهم مادام أن الحالة الأمنية جيم.