كان أمرا مثيرا للألم والسخرية معا، أن تجد مواطنين مصريين يحتشدون فى قلب القاهرة، حاملين علم دولة شقيقة، لمكايدة بنى وطنهم، بدلا من أن يحملوا علم بلادهم ليفاخروا به الدنيا كلها.. مبدئيا، لا غبار فى أن يحمل مواطن مصرى علم بلد عربى، فمصر حاضرة العرب، والقاهرة حاضنتهم، لكل عربى فيها ذكرى ومعنى، على الأقل منذ تلك اللحظة التى رفعت فيها شعوب العرب رايات مصر، واحتشدوا فى عواصمهم تأييدا لها، وهى تخوض معاركها الكبرى إبان عصر التحرر القومى دفاعا عن قيم العدالة والتقدم الإنسانيين، أو حملت جماهيرهم المتحمسة سيارة زعيمها الخالد جمال عبد الناصر، على أعناقها، فى مشهد لم يتكرر قط مع زعيم آخر.. لا ضير فى أن يحمل المصريون علم بلد يتعرض لخطر يستحق معه الدعم، فلطالما خاضت مصر معارك بالسلاح قبل السياسة لأجل أشقائها.
غير أن ثمة فارقا كبيرا بين أن يحمل المصريون جميعهم علما عربيا تعاطفا مع شقيق يتعرض للخطر، تعاطيا مع شعورهم بمحورية بلدهم ودوره فى الذود عن حياض أمتهم، وأن يحمله بعضهم فى مواجهة البعض الآخر، حيث الكيد واضحا والانقسام حاضرا، والشعور بالضعف هاجسا، وكأن المشهد يجرى فى قلب بيروت، تلك المرآة الزجاجية التى اعتاد العرب أن يروا فيها صراعاتهم، وليس فى قلب القاهرة، تلك الحاضنة الكبيرة التى اعتادوا أن يجدوا فيها حلولا لمشكلاتهم، وعونا على أعدائهم.
والمفارقة الكبرى أن ذلك المشهد الحزين، جرت وقائعه أمام نقابة الصحفيين،! التى تم اعتقال نحو الأربعين من المنتسبين لهما بعد أيام قلائل من الاحتفال بعيدها الماسي، حيث مر ثلاثة أرباع القرن من عمرها الذى يفوق أعمار دول كثيرة فى العالم والإقليم.. جرت وقائعه من أناس مأجورين قاموا بالهتاف ضد الصحفيين كثيرا ولعنهم أحيانا، ومن بلطجية حاولوا اقتحام المبنى العتيق، معبد حرية الرأى والتعبير، الذى طالما شهد مؤمنين زاهدين دافعوا عنه، ومنافقين مارقين أيدوا العدوان عليه.. وقع من أناس أبدوا حماستهم للتنازل عن الأهرامات وأبو الهول للدولة الشقيقة، نكاية فى مواطنيهم المحتشدين رفضا للتنازل عن مجرد جزيرتين صغيرتين!.
لا نلوم هؤلاء البسطاء الذين تم استغلال جهلهم وفقرهم من قبل أجهزة فقيرة الخيال، كانت قد استغلتهم قبل 25 يناير فى تفريق تظاهرات المناوئين لحكم مبارك فى سنواته السبع الأخيرة، كما استغلهم الإخوان بشكل أكثر فجاجة فى عام حكمهم البائس، كمحاولة لترييف السياسة المصرية، كشف عنها حديث الرئيس المخلوع فى الخطاب الذى استهل به حكمه، عندما أخذ فى توجيه تحية خاصة لأصحاب التوك توك، وأهل القرى والنجوع، الذين طالما تم حشدهم لتأييده أعقاب الإعلان الدستورى، وفى حصار المحكمة الدستورية، ومدينة الانتاج الإعلامى، فى مواجهة أهل القاهرة، التى بدت مدنيتها عصية عليه، فاستعان عليها بجلافة أنصاره ومريديه، الذين رفع بعضهم علم حماس، وبعضهم الآخر علم القاعدة الأسود فى قلب العاصمة المصرية، قبلة الحداثة العربية، ومهد التمدين المصرى.
لكن، وفى المقابل، نلوم من حشدوهم، ووفروا لهم الرعاية والحماية، نكاية فى مواطنين آخرين اعتبروهم مشاغبين.. نلوم أجهزة الدولة المصرية التى تصورت أن بإمكانهما حسم قضاياها الخلافية مع المعارضين عبر القمع والاعتقال وتضييق المجال العام، ومحاربة النخبة الثقافية والسياسية، بأسلحة المهمشين من الباعة الجائلين وربما البلطجية المحترفين، فإذا ما كانت النخبة تنشد حريتها فى الدفاع عما تعتقده حقوقا للوطن، فما الثمن الذي يمكن أن يطالب به هؤلاء المهمشون لتأييد الأجهزة الأمنية؟ وهل يمكن لمن استحضرهم أن يصرفهم مرة أخرى أم أننا سوف نخضع لتمددهم العشوائى؟، وهل باتت التضحية بالتمدن المصرى ثمنا مقبولا لقمع تظاهرة سياسية؟. وهل يعجز الحكم عن احتواء معارضة وطنية لا تبغى له سوى النجاح ولا مطلب لها سوى الإصلاح؟.
أسئلة عديدة، مرة ومربكة، يثيرها العراك الحاد بين دولة تريد الاشتغال حسب قواعدها القديمة، ومجتمع يريد إعادة صياغة تلك القواعد.. دولة تبدو واثقة بنفسها ظنا منها بأن حدث 30 يونيو قد أغلق ملف 25 يناير بأكمله، ومجتمع يثق بإمكاناته الجديدة التى اكتشفها، ويصر على أهدافه الكبرى التى أعلنها، فلم يعد يتوانى عن إثبات قدرته على التشهير بالممارسات السلطوية للدولة، التى أخذت تنحاز، على سبيل المكايدة والمناكفة، ضد بؤره الحية وكتلته الحيوية، وطبقته الوسطى. حدث ذلك عندما انحازت إلى فئة أمناء الشرطة المتفلتين من ضوابط القانون، على حساب الأطباء، الفئة الأكثر تمثيلا للطبقة الوسطى بكل شرائحها الثلاث، وبكل صفاتها الإيجابية من علم وطموح واجتهاد وثقافة واحترام للنفس ورغبة فى الحياة الحرة الكريمة. وحدث أيضا برعايتها لعدوان الفئات المهمشة، على الطيف الواسع من نخبتها السياسية والثقافية، وفى القلب منهم الجماعة الصحفية، الأكثر صلابة فى الدفاع عن المدنية المصرية.
وهكذا يؤدى الهروب من الحرية واستحقاقاتها، ومن السياسة وضروراتها، إلى الوقوع فى فخاخ لا تنتهى، فبدلا من الإنفتاح علي النخبة والسعى إلى توظيف طاقاتها الخلاقة فى ترسيخ البناء الثقافى والحضارى، يجرى حصارها بخليط من الفئات الدنيا ومن المهمشين. وبدلا من أن تتكاتف النخبة مع الدولة فى ترقية حال هؤلاء، يصبح الطرفان أسرى لهم، وهكذا يهوى الإجتماع المصرى إلى ما هو أدنى، أخلاقيا وإنسانيا وليس فقط سياسيا، حيث يعجز العقل عن بلوغ موضعه اللائق، وتنزعج السلطة من إصراره على طرح الأسئلة الجوهرية فتسعى إلى التنكيل به حتى يلوذ بالصمت، وهنا يسود الجهل وتختفى الحقيقة خلف حجب الزيف، ويصبح كل شىء يساوى أى شىء، وتتبدى الحقيقة ونقيضها سيان، فيرتاح الجميع بالدخول فى غيبوبة التاريخ انتظارا لصدمة كبيرة قد تُحدث الإفاقة المطلوبة، ولكن فى زمن متأخر يكون فيه المريض قد اقترب من حافة الموت، وهو ما لا نرجوه لمصرنا العزيزة.