الأهرام
جابر عصفور
«خمسين » إبراهيم عيسى-3
كثيرة هي المشاهد التي تنسال علي ذاكرة إبراهيم عيسي‏,‏ تريه ماضيه القريب والبعيد‏,‏ منتقلة من الأسرة الصغيرة إلي الأصحاب والزملاء والزميلات إلي أن يصل إلي ذكريات العمل الصحفي
وما ارتبط به من متاعب أوقعه فيها إصراره علي حرية التعبير والمطالبة بحقوق الوطن كاملة غير منقوصة, الأمر الذي أدي به إلي الاصطدام بالسلطة السياسية أكثر من مرة والسجن في بعض المواقف, وكل هذا الحشد الكبير من الذاكرة الذي يصل إلي مائة وتسعة من المشاهد علي وجه التحديد, يبدأ بالأب ويختتم به مؤكدا المكانة الخاصة لهذا الأب الذي غرس في ابنه مبادئ الكرامة والحرية وطلب العدل له وللآخرين. وتمتد هذه المشاهد عبر المكان من قرية الرمالي مركز قويسنا من نوفمبر1955 إلي نوفمبر2005, حيث اكتملت أعوامه الخمسين منذ عشر سنوات. وكم كنت أفضل ألا يتوقف قلم إبراهيم عن استدعاء مشاهد الذاكرة في الخمسين سنة الأولي من عمره فحسب, فالسنوات العشر التي تلت ذلك أكثر زخما بالأحداث والتغيرات السياسية الجذرية من كل السنوات التي سبقتها فيما أتخيل, وهي السنوات التي شهدت ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو اللتين كان لقلم إبراهيم عيسي ونشاطه السياسي دور مهم فيهما ولابد له من كتابته, فهو شهادته علي أخطر عشر سنوات مرت بها حياته وحياة أمته علي السواء. وكلي ثقة بأن ذاكرة إبراهيم تحتشد بالكثير من الصور عن هذه السنوات العشر التي أصبح قلمه فيها أكثر فاعلية وشراسة في محاربة الاستبداد السياسي والتعصب الديني الذي يرتبط أحدهما بالآخر وجودا وعدما علي الدوام. وليته يقوم بذلك, فقد جاوز عمره الآن إحدي وستين سنة, إن لم تخني الذاكرة, خصوصا أنني لا أزال أذكر أنني أكبر من إبراهيم بإحدي عشرة سنة, وأنني عرفته للمرة الأولي قبل أن يتخرج في كلية الإعلام بجامعة القاهرة التي أنتسب وإياه إليها.
وإذا عدت إلي ما سبق أن أشرت إليه من احتشاد ذاكرة إبراهيم بصور الماضي التي لا تقتصر علي عائلته وحدها, وإنما تتسع لتقدم إلينا صورة بانورامية للحياة المصرية في نصف قرن, وهي السنوات التي تمتد ما بين أوائلها وأواخرها شاهدة علي تحولات المجتمع المصري الحادة, ابتداء من سنة1972 ودخوله إلي ما يسمي عصر الانفتاح الذي تزامن الفساد السياسي فيه مع غلبة النزعات المحافظة والرجعية في الفكر الديني والحياة السياسية والاجتماعية علي السواء. ونلمح ذلك في المشهد العاشر من المذكرات حين يحدثنا إبراهيم عن جامع النصر الذي: كان يكتظ بالمصلين كل جمعة, ثم تراجع الإقبال عليه مع رجعية البلد, وتحول الشيخ نفسه مع غلبة السلفيين عليه, حتي إن لحيته المشذبة كبرت وطالت. كان المنفتحون بالذات يذهبون إلي هذا الشيخ الكفيف للاستماع لخطبته المكثفة التي لا تستغرق أكثر من خمس وعشرين دقيقة, يمكن أن تضبط ساعتك عليها وتنتهي بجرعة فقهية للشباب, الغلبة في ملابس المصلين كانت للقميص والبنطلون, أما مسجد التوحيد فالخطبة فيه كانت تمتد إلي أكثر من ساعة, وكله جلاليب ومعظمهم ملتحون, كنت تعرف توازن التشدد والتنوير في بلدنا من الإقبال علي الجامعين. كان هذا من ربع قرن مضي, يا تري ما الوضع الآن؟ الإجابة معروفة للجميع, تغلبت السلفية وأمثالها وفرضت النزعات الرجعية المنغلقة في الخطاب الإسلامي وجودها, حتي علي الأزهر نفسه الذي لا يزال يتحدث بالأقوال لا الأفعال- عن التسامح والدين الوسطي. لكن لم يقتصر الأمر علي ذلك, فإذا مضينا مع إبراهيم إلي جامعة القاهرة ومكتبتها التي كانت تشيع البهجة في نفسه حين يدخل إليها, فيطلب يوما كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين, فيتناوله ويفتحه ويقلب صفحاته: فإذا بهلع يتملكني ونار تندلع في رأسي, كانت الصفحات تمتلئ بكتابات بخط اليد علي هوامشها من هؤلاء الذين طالعوا الكتاب في هذه المكتبة من قبل, كلها خطوط رديئة وشتائم أردأ, تتراوح بين يا أعمي يا كافر إلي كلب يحارب الدين, لا تقرءوا لهذا الزنديق. كنا وقتها في منتصف الثمانينيات وكانت مصر تغسل عقول شبابها بلوث السلفية والوهابية, حاولت التماسك, وقمت أفتح صفحات كتاب طه حسين كلها, وكانت الشتائم تقذف بخط يدهم من هوامش الصفحات إلي متن قلبي.. هل لا يزال الجهل يكتب سيرته هناك علي هوامش طه حسين حتي الآن؟. والإجابة واضحة في الحياة التي نحياها وفيما جري لها واستبدال خطاب التعصب بخطاب التسامح والمساواة بالتمييز والهوية الدينية بالمواطنة. ويشير إبراهيم إلي موطن العلة والداء في كيفية التدريس وتكوين أذهان الصغار الذين يلقيهم سوء الحظ إلي التعليم الديني. وهو ما نراه في المقرأة التابعة لجامع المساعي, حيث كان الشيخ أحمد يحفظ القرآن للأطفال. وقد أرسله والده للحفظ علي يديه: كانت القاعة مزدحمة وصاخبة والشيخ أحمد يحفظنا جماعة وينادي بعضنا فرادي ليسمع منا ويحفظنا وهو جالس علي دكة تحت النافذة, لم أره مبتسما قط, ولم يهمس صوته يوما... كان يكره جدا أن نسأله عن معني الكلمات, ويشخط فينا: إنتوا تحفظوا بس ولما تكبروا تفهموا يا حمير. انقطعت عن الشيخ أحمد وكلما التقيت بعدها زملائي وقد تفرقت بنا السبل أسأل نفسي: هل يا تري فهموا وكبروا, المشكلة أن الحمير حتي ولو كبرت لا تفهم, هي فقط تحمل أسفارا. حتي الآن لم أحصل علي إجابة عن: ما مصلحة الشيخ أحمد أن يحفظ الحمير كلام الله؟. ويبدو أن عدد هذه الحمير قد تكاثر إلي الدرجة التي جعلتنا نضيق بوجودهم في حياتنا ومنهم هؤلاء الطلاب الذين نهر أحدهم إبراهيم الطالب في كلية الإعلام قائلا: بتشوف أفلام طول اليوم وجاي تصلي معانا؟!. هكذا شهد إبراهيم تحول المجتمع المصري من حوله وكيف تحول الحرامية اللصوص من جيرانه إلي الجماعات السلفية وأخذوا يضيقون عليه الخناق في أثناء الصلاة, الأمر الذي اضطره إلي ترك الجامع لهم, خصوصا بعد أن انقلبت أحوال المساجد وتغيرت كلمات الخطباء فيها ولم تعد تدعو إلي التسامح بل إلي التعصب والتمييز الذي أغرق المجتمع كله في دواماته التي انتهت بسيطرة الإخوان المسلمين علي الحكم. أما عن الطرف الثاني في المعادلة أو الحليف الدائم للتعصب الديني فهو الفساد السياسي والاستبداد الذي يقترن دائما بمشاهد السجن الذي كان لابد أن ينتهي إليه أمثال إبراهيم. صحيح كان سجنه سجنا مرفها يتمتع فيه بمشاهدة الأفلام التي يستعين بها علي طول ليالي السجن. ولكن السجن يظل سجنا وعلامة علي غياب الديموقراطية والرأي الآخر. ولعل أكثر المشاهد دلالة في هذا الاتجاه هو المشهد الثالث والتسعون حيث نقرأ: كنا في حر يوليو القائظ الذي يتحول إلي نموذج للجحيم داخل قاعة محكمة تعطلت مراوحها وزاد زحامها, كنت محاطا بالمحامين وبالأحبة وبأجواء الترقب والانتظار. وقف وكيل النائب العام فترافع ضدي حتي كدت أصدق معه أن مصر ستكون أفضل لو توقفت عن إبداء رأيي فيما يحدث فيها, كان الرجل باهرا في إخلاص ادعائه, انتهي من مرافعته راضيا تماما عن نفسه, وكنت أنا راضيا تماما عن نفسي. طلب القاضي من محام بالحق المدني المرافعة, فصب المحامي مزيدا من اللعنات علي شخصي, فإذا برجل ينبري واقفا في القاعة صارخا في المنصة: هو فيه إيه كلكم علي إبراهيم عيسي كده ولا إيه, هو مفيش في البلد غيره؟. تجمدت القاعة كلها وتفاجأ القاضي وصرخ فيه: إنت مين يا راجل إنت وإيه إنت اللي بتقوله ده؟. تلفت إليه, وتبادلنا الابتسامات, ونظرت للرجل الذي خاطب القاضي, بامتنان حقيقي, وهو يستسلم للأيدي التي تشده ليجلس: ده ناقص تقولوا إن إبراهيم عيسي اللي عطل المراوح. هذه هي الروح المرحة التي يتذكر بها إبراهيم مشاهد المحاكمات التي مر بها وأيام السجن التي قضاها, وهي أيام لم تفت في عضده, فظل يكتب بما يمليه عليه ضميره, ويقدم برامجه بما تفرضه عليه وطنيته, والأيام تمر به وتمضي السنوات وهو يتعلم كل يوم جديدا ويكتب خبرته الحياتية والسياسية في روايات تصادر وفي روايات تستفز دعاة التعصب الديني, لكن هذا كله لم يقض علي روحه المرحة وحسه المصري الأصيل بالنكتة. هذا الحس الذي قاوم به الشدائد والذي جعله يتكلم عن الموت في أسرته كما لو كان يتكلم عن مشاهد الطبيعة أو عن مشاهد الزرع الذي ينقلب ما بين النماء والذبول أو الحياة والموت. ولكن الدموع تنهمر من عينيه عندما يموت مولوده الأول بعد أربعة أيام من مولده, فيضطر في مشهد مؤثر إلي استدعاء النجار لتفكيك السرير الصغير الذي وضعه وزوجه إلي جانب سريرهما. وأظن أن الحزن علي هذا الوليد سرعان ما محته الذاكرة بعد أن رزق إبراهيم بابن وبنت.يبقي أن نذكر شيئا عن الأسلوب المكتوبة به صفحات هذه المشاهد التي تنسال علي ذاكرته, فهو الأسلوب الصحفي الذي عرف به إبراهيم في كتاباته الصحفية: الجمل القصيرة الغالبة, والميل إلي العامية عندما يفرضها الموقف, وكتابة الحوارات كلها بالعامية, خفة الظل التي لا تفارق الأسلوب فتجبر القارئ علي أن ينتقل بين المشاهد مسرعا بعد توقف يسير للتأمل في كل الجمل الختامية للمشاهد بأثرها, وهو تأمل ينتقل بالقارئ من الخاص إلي العام, ومن الجزئي إلي الكلي ليتعمق في المعني والمغزي وتتأسس الدلالة التي تقول في النهاية أن مشارف الخمسين بلغة إبراهيم عيسي هي مشاهد الابتداء الصاعد الذي لم يتوقف في كل مواجهاته السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية, باختصار في كل توجهاته الوطنية. أما إخراج الكتاب فعمل فني بذاته يزدوج فيه المكتوب من المشاهد مع المطبوع من صور الأسرة والأصدقاء والأساتذة بما يجعل العين تقرأ الكلمات المكتوبة وتستمتع بتوزيع الصور الفوتوغرافية. ومؤكد أن للكتاب ما بعده- فيما أرجو.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف