الوطن
حسن ابو طالب
متى تسقط الدول؟
فى مقال لعالم الاجتماع د. سعد الدين إبراهيم، بعنوان «خرافة هدم الدولة المصرية»، المنشور فى جريدة «المصرى اليوم» السبت الماضى، ينتهى الكاتب بعد استعراض من هم أعداء الدولة المصرية من وجهة نظره فى اللحظة الجارية إلى أن حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى المتكرر عن هدم الدولة المصرية فى حقيقته يقصد به نظامه، وأنه يحاول تحصين موقعه الرئاسى فى مواجهة آخرين.

وبالرغم من أننى لا أحبذ فى مقالاتى الدخول فى جدال مباشر مع ما يكتبه السادة الكتّاب فى مصادر صحفية أو إعلامية مختلفة، فإننى وجدت الأمر يستحق مجادلة الفكرة نفسها، وهى ببساطة العلاقة بين الدولة والنظام، ومن منهما يقود الآخر إلى السقوط والهدم. وفى البداية أورد قناعة شخصية التزم بها منذ زمن طويل وهى تتعلق بما يُعرف بموت المؤلف، وهى نظرية معروفة فى التحليل الأدبى منذ ثلاثة عقود، ومشهورة فى اتجاهات ما بعد الحداثة، وهى ببساطة أن الكاتب تنقطع صلته بما كتب حين يتم نشره، ويصبح المالك الحقيقى للنص هو القارئ، الذى بدوره يقرأ النص ويفهمه بطريقته الخاصة، وليس بطريقة المؤلف نفسه، وقد تتفق القراءتان وقد لا تتفقان أبداً، ولا يعنى ذلك أن النص سيئ، أو أن المؤلف لا يعرف ما يقول، وإنما الأمر يتعلق بالقارئ أولاً وأخيراً وله الحق المطلق فى أن يُقيّم النص كما يشاء، ومع ذلك وحسب ما فهمته من المقال، وحتى لا أضع تفسيراً لم يقصده الكاتب قدر الإمكان، هو أن هناك فصلاً بين النظام الحاكم برئيسه والدولة بمؤسساتها، وأن الدولة المصرية فى اللحظة الجارية لا تواجه أى تحديات جوهرية تتعلق بوجودها أو هويتها، وإنما الذى يواجه هذه التحديات الكبرى هو نظام عبدالفتاح السيسى، والذى يبدو أنه يخلط الأوراق بحيث يقنع مستمعيه بأن هدم نظامه هو هدم للدولة ذاتها، وهذا غير صحيح، والمسألة برمتها محاولة من الرئيس لتحصين موقعه الرئاسى فى مواجهة الآخرين الذين لم يحددهم الكاتب، وهل هم أشخاص ذوو نفوذ ولهم شعبية مثلاً، أم قوى اجتماعية داخلية، أم جموع الشعب، أم قوى خارجية أم ماذا؟

وما يدور فى ذهنى هو أن النظم الحاكمة أياً كانت تكون بمثابة عنوان وهوية للدولة بمؤسساتها، والعكس أيضاً صحيح، إذ لا يُتصور مثلاً أن هناك مؤسسات تؤمن وتعمل بالقيم والممارسات الديمقراطية، وفى الآن نفسه يكون النظام الحاكم برمته برئيسه ونخبته استبدادياً أو شمولياً، وكما يُقال فكما تكونون يُولى عليكم، وبصراحة شديدة إن كنتم ديمقراطيين، فسيولّى عليكم الديمقراطيون، والعكس مفهوم. وأذكر هنا واقعة أتصور أنها ذات مغزى، ففى نهاية 1990، وكنت مُتابعاً لما يجرى فى دول القرن الأفريقى، ومن بينها الصومال برئاسة محمد سياد برى، وكان الصومال وقتها يعانى من انقسامات شديدة ونذر حرب أهلية ومواجهات فى مناطق مختلفة بما فيها العاصمة مقديشيو، وكذلك تدخلات سافرة من الجار الكبير إثيوبيا، وحدث أن نشرت بالأهرام مقالاً عن الحرب الأهلية فى الصومال فى الأسبوع الأخير من ديسمبر، وإذا بالخارجية الصومالية والسفارة الصومالية بالقاهرة تحتج وترى أن ما كتبته فيه قلب للحقائق، وأنه يناصر الأعداء ويشوه الحقائق، وتطلب من الجريدة أن تعتذر للصومال وللرئيس سياد برى شخصياً. وطُلب منى أن أرد على هذا الاحتجاج، وقمت بذلك طوال الليل، وإذا بالصباح التالى يُعلن هروب الرئيس ووقوع العاصمة فى الفوضى التى ما زالت آثارها ممتدة حتى اللحظة. وبذلك لم يكن هناك أى داع لنشر الرد.

منذ ذلك اليوم فإننى أعتقد اعتقاداً جازماً بأن هناك علاقة جدلية بين النظام الحاكم والدولة كمؤسسات وقوى اجتماعية ودور. ولماذا نذهب بعيداً، فحين سقط القذافى فى ليبيا، ما الذى حدث؟، هل بقيت الدولة كمؤسسات وكقوى اجتماعية وقانون ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟، أم انتهى كل ذلك، وما زلنا نبحث عن الدولة هناك؟ أعتقد أن الإجابة واضحة. والأمر ذاته ينطبق على حالات أخرى حتى إن اختلفت التفاصيل جزئياً، أبرزها اليمن الذى يبحث عن نفسه وسط ركام الحرب الأهلية وتدخلات القوى الإقليمية، وسوريا التى تبقى فيها بقايا الدولة ونظام الأسد فى بعض مواقع من الخريطة السورية، وتنهار فيها الدولة والنظام معاً فى باقى المناطق التى لا تعرف من يتحكم فيها، ووفق أى قانون اللهم قانون الغاب والتوحش.

إذاً وببساطة شديدة، فإن الدفاع عن وجود نظام سياسى يلتزم بدستور أقره الشعب وشكل مؤسسات تتفق مع هذا الدستور يعنى ببساطة الدفاع عن بقاء الدولة والحفاظ عليها، ولا علاقة هنا بأشخاص بقدر ما هو علاقة مباشرة بأدوار ومسئوليات ومفاهيم وقناعات. وبمفهوم المخالفة التى يبرع فيه أنصار تحليل النصوص، فإن التهوين من قيمة النظام السياسى وامتداداته من مؤسسات ودستور حاكم، وكذلك التهوين من قيمة الضغوط التى يتعرض لها هذا النظام سواء من الداخل أو الخارج، يعنى أننا ندفع بالدولة ككل إلى السقوط، وكما علمنا التاريخ أن الأشخاص يأتون ويذهبون، وإنما تبقى المؤسسات، أى الدولة بالمعنى الوظيفى طالما قامت بالدور المرسوم لها، والذى يقبله المجتمع وينظمه القانون.

والمشكلة الكبرى فى مصر الآن أن الأمور ما زالت فى حالة سيولة ولم نتخلص بعد من الآفات التى مرت بنا فى المرحلة الانتقالية السابقة قبل استكمال بناء المؤسسات السياسية. وهى حالة تغرى البعض بالترويج لفكرة التغيير العشوائى أو على الأقل إثارة الغبار على محاولات ضبط هذه الحالة من السيولة، وبما يسهم فعلياً فى استمرار حالة التربص والاستقطاب المقيتة. ومن المظاهر المؤذية بقوة أن كثيراً من المؤسسات الرسمية وغير الحكومية سواء المدنية والأهلية والنقابية، إما تتجاوز أدوارها بغية اكتساب مساحات نفوذ جديدة حتى لو كانت بلا أساس دستورى أو قانونى، وتقوم بعمل مناورات وافتعال مواجهات وتصعيد يتجاوز حقيقة الموقف من أجل إثبات حقائق جديدة ومعادلات سياسية ومعنوية وشخصية أيضاً، وذلك بغض النظر عن مصالح الآخرين وأداورهم وحقوقهم المشروعة. وفى المقابل هناك مؤسسات لا تقوم بالحد الأدنى من الوظائف المُكلفة بها، وبذلك تترك فراغاً يغرى آخرين بالانقضاض عليه. والمشكلة على هذا النحو تخص المجتمع بأسره، وتتجاوز الفكرة السطحية التى يروج لها البعض بأننا أمام نظام سياسى يتعلق بشخص واحد يواجه أزمة شرعية، ويسعى إلى حماية نفسه عبر الترويج لمفاهيم مغلوطة، وعلى الأقل، فهذا هو فهمى المتواضع للأزمة المصرية حالياً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف