أحمد عبد التواب
مجلس النوّاب لا يزال في التسخين على التراك
الواقع يقول إن الرأى العام، حتى المتابع منه للتفاصيل، لا يرى بعد نشاطاً محسوساً لمجلس النواب منذ بدء أعماله، ليس فقط على مستوى ما يُلبِّى طموح الثورة، ولكن حتى على المستوى الذى يمكن تقبله كحد معقول!
مثلاً، لقد نادى الرئيس السيسى علماء الأزهر قبل أكثر من عام بثورة دينية وتطوير للخطاب الدينى، فى كلمته الشهيرة فى ذكرى المولد النبوى من العام الماضى. ولم يكن من المتوقع أن تتحمس المؤسسات الدينية حماساً حقيقياً خاصة بعد تأييدهم السريع المريب لنداء الرئيس فى وقت كانوا يشنون فيه أشرس هجوم على من يتجاسر بالمطالبة بالحد الأدنى مما نادى به الرئيس. وسرت تعليقات كثيرة آنذاك بأن رجال الأزهر ينحنون أمام التوجه الجديد للرئاسة على أنها موجة مؤقتة يحسن عدم التصدى لها وتركها لتموت مع الزمن.
وها قد مرَّ عام وأكثر، تبين فيه أن رجال الدين صاروا أكثر تطرفاً بل أنهم جذبوا إلى صفوفهم من كان مشهوراً عنهم الاعتدال! وقد تجلّت أعراض هذا فى كمية الدعاوى التى تحركت ضد فنانين وأدباء ومفكرين، ووصل الأمر إلى الزج بثلاثة أطفال مسيحيين فى السجن بتهمة ازدراء الإسلام، دون أدنى تقدير لما يمكن أن تثيره من فتنة حقيقية! فى حين أن أهم المضبوطات فى القضية فيديو 27 ثانية فقط، جرى تسجيله قبل أكثر من عام فى ظروف خاصة، يتهكم فيه هؤلاء الأطفال على تنظيم داعش الإرهابى عندما ذبح عدداً من المواطنين المصريين، وهو ما وُوجِه آنذاك بقوة وبشكل رسمى من أجهزة الدولة ومن الرئيس السيسى شخصياً إلى حد إصداره الأوامر للقوات الجوية بالإغارة على مواقع الإرهابيين فى ليبيا وتلقينهم درساً! وكان هنالك فى نفس الوقت مئات الشرائط أشد سخرية ضد داعش، ولكن يبدو أنها لم تحرك أصحاب هذه الدعوى لأنها من مسلمين!
وبرغم كل هذا، قرَّر أصحاب الدعوى أن يعزلوا تعليق الأطفال المسيحيين عن كل هذه الملابسات، وأن يخلطوا الانتقاد الموجه إلى داعش بالموقف من الإسلام، وأن يعتبروا هذا النقد هجوماً على الإسلام!
وأيضاً، وصل الأمر إلى حد اتهام الدكتور حسن حنفى بالردة ومطالبته بالاستتابة! ودون ذكر الخطوات المترتبة على هذا، يمكن للناس أن يتذكروا المآسى التى حصلت لآخرين وقعوا فى هذه الهاوية التى يصيرون فيها وجهاً لوجه ضد العامة المشحونين بسابق إنجازات التطرف التى ملأت نفوسهم، لا عقولهم، بأن هناك كفاراً يتربصون بالدين وأنهم يسعون لنشر الإلحاد والفسق والانحلال..إلخ، فيحدث مثل ما حدث مع فرج فودة ونجيب محفوظ وغيرهما!
كان المأمول من مجلس النواب أن يدرك هذا الخطر وأن يعمل من اليوم الأول على إنقاذ البلاد من هذه الكارثة، ولديه الصلاحيات الدستورية التى تمكنه من معالجة التشريعات التى توفر الأدوات والمناخ للمتطرفين أن يشعلوا هذا الإرهاب الفكرى المفضى إلى ما هو معروف.
هذا ليس حصراً للوقائع التى مرت دون أن يتعامل معها النواب بما يمليه عليهم واجبهم الدستورى. ولا يزال الطريق طويلاً حتى يمكن أن يُوجَّه لهم لوم بالفتور إزاء شعارات الثورة التى أتت بهم إلى مقاعدهم.
ومن المهم الإشارة إلى آخر واقعة هذه الأيام، والتى لا يزال أمام النواب فرصة أن يكون لهم دور ينزع الفتيل قبل أن تتفاقم الأوضاع إلى ما هو أسوأ وإلى ما يصعب علاجه إلا بعد دفع فواتير باهظة تنال من الاستقرار الذى يقال كثيراً إنه منشود. والمقصود واقعة اقتحام الشرطة لنقابة الصحفيين، والتى تدهور فيها الأمر إلى درك الاختلاف فى بديهيات حول ما إذا كان ما حدث اقتحاماً ضد القانون الذى وضع إجراءات لم تلتزم بها الشرطة، أم أنه التزام من الشرطة بواجبها وتطبيقها للإجراءات واجبة الاتباع!
وهو، كما ترى، أمر خطير! يُحذِّر معظمُ الصحفيين، وكثيرون من الرأى العام، من أن التهاون مع هذه السابقة التى لم تحدث فى تاريخ نقابة الصحفيين المديد، يترتب عليه أن تتكرر مستقبلاً مع الصحفيين، أو مع غيرهم، ويصبح اقتحام مقار النقابات، أو غيرها، ساحة هجوم لقوات الشرطة بدعوى إلقاء القبض على متهمين، دون مراعاة لأية اعتبارات أخرى، على الأقل بالصورة العامة للدولة عندما يصير عموم المواطنين فى المنتديات العامة عُرضة لواقعة هجوم أمنى للقبض على مندس فى الصفوف! ومن يدرى ماذا يمكن أن يستجد على واقعة نقابة الصحفيين التى خلت من استخدام العنف أو السلاح. فلا ضامن فى المستقبل، إذا اعتمد هذا الأسلوب، أن يتسلح الهاربون المندسون فى الصفوف، وقد يبادرون قوات الأمن باستخدام السلاح، فيرد رجال الأمن بالمثل..إلخ.
هذه صورة كابوسية، ولكنها لم تُحرِّك مبادرات من النواب لمواجهتها، برغم أن لديهم الصلاحيات الدستورية التى تتيح لهم التدخل وتشكيل لجنة لتقصى الحقائق، واستدعاء وزير الداخلية ليشرح لممثلى الشعب وللرأى العام فلسفته الجديدة التى يستحل فيها لرجاله أن يفعلوا ما فعلوا، وأن يُسأل إذا ما كان ينوى تعميم هذه الفلسفة مستقبلاً، وما هى التدابير التى وضعها لحماية من يلقى به حظه العاثر فى مسرح عمليات إلقاء القبض والمقاومة المحتملة..إلخ!
ما يجب أن يتلفت إليه النواب، وبشكل عام، واستخلاصاً من هذه التفاصيل وغيرها، هو أن الصورة التى تركوها حتى الآن لدى الرأى العام، هى أن لديهم اتجاهاً عاماً يهمه بالأساس أن يدافع عن الدولة، بمعنى الدفاع عن الرئيس والحكومة، وأن هناك فريقاً آخر لا يوافق على هذا، بل يرى أن من أهم مهامه الأساسية أن يراقب أداء الحكومة. وأما المشكلة الحقيقية فهى أن هؤلاء الأخيرين لم يطوروا موقفهم إلى خطوات عملية تتجلى فيها أمارات هذه الرقابة.
وأما الموقف الذى جمع كل هذه الأطراف، والذى يكاد أن يكون فريداً حتى الآن، فقد كان عندما توحدت الأصوات تقريباً ضد القرار بقانون الخدمة المدنية. ولكن الأمر توقف عند هذا الأمر مما أطلق التعليقات بأن النواب لم يكن أمامهم إلا الرفض، خشية من الرأى العام المشتعل ضد القانون، حيث كان على كل نائب أن يفكر فى كيف يواجه ناخبيه إذا هو وقف لصالح القانون المرفوض.