التحرير
أشرف الصباغ
الانتقام الممنهج من الصحفيين في مصر
"أنتم السبب"

كانت هذه هي الجملة التي تتكرر على ألسنة مجموعة من الشبان مفتولي العضلات في "جواكت" جلدية سوداء وهم يضربون مجموعة التصوير التي كنتُ ضمنها في شارع بورقيبة في تونس مساء يوم ٢٨ يناير ٢٠١١. وعندما عرضنا ما فعلوه بالصور، وكتبنا في الموضوع، تلقينا رسالة بالفرنسية من وزير الداخلية التونسي آنذاك يؤكد فيها أن تونس ليس لديها بوليس سرى أو مجموعات "المعاطف السوداء" ولا تعرف عنها أي شيء. والمدهش أن هؤلاء الشبان المنظمين مفتولي العضلات في أرديتهم السوداء كانوا يضربون الصحفيين ويعتدون على المتظاهرين أمام أعين قوات الأمن التي تحمل السلاح وتطلق النار والغاز والخرطوش على المتظاهرين. أو بالأحرى كانت تعمل مع هذه القوات جنبًا إلى جنب.

طوال السنوات الخمس الماضية كانت هذه الجملة "أنتم السبب"، تتردد بقوة عندما يتم استهداف الصحفيين المصريين إما بالقتل أو الاعتقال أو تشويه السمعة. هذه الجملة لا تزال تتردد وتتسع كالموجة عندما يتم أي اعتداء على الصحفيين، سواء كان ذلك على مستوى الاعتداء الجسدي، أو بالقمع والتنكيل، أو بشق صفوف الصحفيين وإهدار القيم المهنية والنقابية لصالح الجهل والتسطيح والتجهيل على المستوى المهني من جهة، وصناعة جوقة من النجوم تستأثر بالساحة الإعلامية عبر الدعم المالي والأمني والإداري من جهة أخرى، أو باستعداء الناس ضد الصحفيين والإعلاميين عن طريق خلط الأوراق، واستخدام ما يقوله ويكتبه صحفيو الحكومة لمعاقبة وتشويه الصحفيين المعارضين.

هناك انطباع سائد بأن ما يجري الآن ضد الصحفيين ونقابة الصحفيين، والصحفيين المنتقدين لسياسات النظام السياسي، هو مجرد غطاء لعملية انتقام واسعة منذ سنوات طويلة. وفي الحقيقة، لا يمكن فصل ما تقوم به وزارة الداخلية عن سياسات الدولة عموما، لأن تلك الوزارة لا تصنع السياسات، بما فيها الأمنية، بل تقوم بتنفيذ هذه السياسات التي يتم إقرارها في أروقة وغرف ذات مستوى أعلى من مستوى وزارة الداخلية نفسها. وبالتالي، فالمسؤولية لا تقع فقط على تلك الوزارة، وإنما على مؤسسات كثيرة، أهمها مؤسسة الرئاسة نفسها وعلى ما يجرى بداخلها من تناقضات وصراعات، وعلى ما يحيط بها أيضا من شد وجذب وولاءات مختلفة ومحاولات أخرى نربأ بأنفسنا عن توصيفها على الأقل حاليا.

إن تجريد الحملة الأمنية ضد الصحفيين ونقابتهم، ومحاولات قصرها على قانونية الإجراءات والاعتقالات والاقتحامات، هما تزوير واضح وتجهيل وسعي لإبعاد الأنظار عن الكوارث الحقيقية. وكما تم قصر جريمة "التخلي" عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين على إجراءات الملكية وصكوك التملك والسرد التاريخي للجزيرتين، تجري نفس المحاولة مع اقتحام نقابة الصحفيين واعتقالهم والتنكيل بهم وشق صفوفهم والتلاعب بمهنة الصحافة. وفي نهاية المطاف يتم استخدام ما يجري للتغطية على جريمة تيران وصنافير من جهة، وتأديب المعارضين بشكل عام، والصحفيين تحديدا، من جهة أخري.

المواجهة الآن تبدو بشكل مباشر بين نقابة الصحفيين كمؤسسة حيوية ووزارة الداخلية التي أوقعت نفسها في فخ الدفاع عن قرارات سياسية. ولكن هذه المواجهة في عمومها بين الحرية والقمع، بين قطاع واسع من الصحفيين والنسق الأمني للدولة. وبالتالي، فما يجري الآن هو حلقة من حلقات الصراع والمواجهة التي ستنتهي حتمًا، وكالعادة، بانتصار الجماعة الصحفية الوطنية وانتصار وشموخ مؤسسة النقابة حتى وإن نجحت "الدولة" في إظهار شقاقات وانقسامات واللعب عليها، إمعانا في تشويه نضال الصحفيين المهني والفكري والسياسي من أجل المهنة أولا، ومن أجل دعم ومساندة وتطوير المجتمع المصري داخل "الدولة المصرية" الحقيقية والراسخة والقوية التي تنشدها وتسعى إليها هذه الجماعة الصحفية ونقابتها.

هناك محاولات لعزل النقابة وأبنائها عن بقية النقابات وحرمانها، وحرمانهم، من دعم زملائهم في النقابات الأخرى. وهناك مساعٍ إجرامية لتشويه النقابة ومحاولة عزلها عن المجتمع المصري. كل ذلك تحت شعارات وبرامج "توك شو" وتسريبات ممنهجة وكلاسيكية مثيرة للسخرية والقرف في آن واحد. والخاسر في نهاية المطاف، هو المجتمع المصري في عمومه، والمؤسسات الأمنية والسيادية أيضا. وإذا كنا قد تحدثنا عن "تركة الرجل المريض" في جريمة التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، فإن جريمة اقتحام نقابة الصحفيين وحصارها وعزلها تشكِّل ضربة أخرى في جسد هذا "الرجل المريض" الذي لا تُوَزَّع تركته فقط، بل وأيضا يتم الإجهاز على ما تبقى من جسده.

للأسف الشديد، سيادةُ الرئيس عبد الفتاح السيسي، وفقا للتقارير الصحفية والميدانية، فَقَدَ بريقَه في الغرب وعلى صفحات ومواقع الإعلام العاقل والرصين. وهناك ما يشبه الاتفاق الضمني على أن السيسي والبدائل الأخرى مثل تنظيم الإخوان أو السلفيين أو التنظيمات الدينية اليمينية المتطرفة لم تعد تصلح لمصر في مطلع القرن الواحد والعشرين. وهذا ما تؤكده إجراءات وزارة الداخلية بحق قضايا كثيرة، ومن ضمنها ما يجري الآن.

كل الممارسات الجارية حاليا في مصر تؤكد وجود صراعات بين الأجهزة الأمنية، وبالذات في ما يتعلق بإضعاف وتقليص دور أجهزة ومؤسسات سيادية وطنية لصالح الأمن الوطني والمخابرات العسكرية. هذا الأمر يضر بوحدة مصر وسلامة أراضيها وسيادة قرارها، ويشير إلى وجود جيوب ولوبيات تعمل لحساب مصالح خارجية، وتعمل في الوقت نفسه على إخراج السيسي وتركيبته من المعادلة، بعد أن قاما "بدورهما المطلوب". ومن الواضح وفق تقارير كثيرة، أن مراكز "قوى قديمة" تستعيد قوتها الاقتصادية والأمنية حتى لو ضحت بالسيسي نفسه. وبالتالي، لا يمكن استبعاد استمرار وتواصل حملات القمع وتكميم الأفواه في الفترة المقبلة. لكن الأخطر، سيكون ظهور حملات وتوجهات، مترافقة مع حملات القمع والتشويه، لاستحداث أشكال وتجمعات بديلة لنقابة الصحفيين، وخلط الأوراق ودق الأسافين داخل النقابة وفي الأوساط الصحفية والإعلامية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف