علاء خالد
الكهف السرى.. مقهى على الهندى
مقهى "على الهندي" هو أحد المقاهي الشهيرة بالإسكندرية. يقع فى أحد نتوءات ميدان المنشية، ذلك الميدان الذى كان شاشة تسجيلية لحركات وأحداث وتحولات سياسية واحتجاجية وحياتية مرت بالإسكندرية وشكلت سيرتها، منذ منحه محمد على هذه الأهمية وجعله رمزًا لسلطة دولته وتمثيلها المادى والمعنوى. يتوسط المقهى عدة مبان ذات طراز إيطالي بُنيت بعد ضرب الإسكندرية من قِبل الأسطول الإنجليزي، وتدمير الميدان عام 1882. تسمى هذه المجموعة من المباني، التى يتوسطها المقهى، بوكالة "أمفراتو". بالصدفة عرفت من باحثة إيطالية، ذكرتُ أمامها الاسم، أنه يعنى "الكهف" بالإيطالية. هذه التسمية الشعرية ذكَّرتني بالاسم القديم الذى تعرفت به على المقهى فى بداية التسعينيات: "قهوة خبِّينى".
ربما هذه التسمية الغريبة ترجع إلى كَوْن المقهى لا يُرى من خارج ميدان المنشية، لوجود ثلاثة ممرات ضيقة للغاية لا تُلحظ بسهولة تفضى إليه من الميدان والشوارع المحيطة، أو أنه كان يستخدم كمخبأ سنوات الحرب العالمية الأولى والثانية. فالمقهى قابع فى منتصف البنايات ومحمي من ثرثرات الحياة فى الخارج، وله خصوصية الكبسولة المرمية فى الفضاء. وجدتْ تسمية هذا المكان بـ"الكهف" رغبة فى نفسي، ولا أعرف مدى دقة هذه المعلومة الخاصة، ولكنه بالفعل أصبح كـ"الكهف" الذى تلجأ إليه خارجا من تيار الحياة الصاخب ورغبة فى استعادة اتساق قديم مع نفسك. فبمجرد دخولك عبر هذه الممرات السرية قادمًا من نهار ميدان المنشية تصبح فى مناخ آخر، يتسلل لك عمود النور الساقط، فى منتصف المقهى تماما، وعبر الشخشيخة الزجاجية التي تتوسط البنايات من أعلى والمفتوحة على السماء؛ تعبر به كأنك دخلت أحد الكهوف المنسية من بداية التاريخ.
undefined
المهم، هناك مجموعة من الصم والبكم اتخذوا من هذا "الكهف السرى" مكانا للقاء. أصادفهم كثيرًا، سواء فى وسط الأسبوع أو بعد صلاة الجمعة. أعمارهم ما بين الأربعين والسبعين، أصبحوا مخضرمين فى هذه اللغة الإشارية التى يستخدمونها بطلاقة. أحيانا يلعبون الدومينو أو الطاولة، وغالبًا ما ينصبون دائرة ويبدأ هذا النقاش الجماعي حول مشكلة أو موضوع ما. أشعر بالغيرة كوني أجلس بجوار مناقشة حارة وإشارات وكلمات ومعان متطايرة فى الهواء، ولا أفهم منها شيئًا. لغة كاملة قامت على الإشارة: حركات أصابع وأشكال طيور وإشارات مألوفة متفق عليها هى قوام هذه اللغة.
ولكن أحيانا لا تسعف هذه اللغة المستخدمة فى توصيل المعنى، فأجد أحدهم يصدر صوتا كأزيز حاد، كحشرجة غير مشذبة، خارجًا من مكان بداخله لا يعرف طريقة سبك الأصوات، فيخرج هذا الصوت فى حالته الخام ومختلفًا فى ذبذباته ومضمونه وشوائبه. والغريب فى الأمر أن من يُصدر هذا الصوت لا يسمعه، سواء هو أو الطرف الآخر الذى يوجهه له (من هم خارج المشهد مثلى يسمعون هذا الصوت)، كأن هذا الصوت له شفرة أخرى غير معروفة وغير متفق عليها، وسيظل المعنى الكامن وراءه محبوسا، لم ولن يكتشفه أحدهم.
فى السينما الصامتة التى كانت تقوم على الإيماء، يتم تركيب صوت خارجى على شريط الفيلم المصور لتأكيد معنى إيماءة/ إيماءات ما. هذا الصوت الخارجى، فى رأيي، يشبه صرخة هذا الرجل الأصم/ الأبكم تماما، والآتية من خارج المشهد لتكمل عناصر مشهديته. فى هذه الحالة "المتفرج" مثلى هو الذى سيخلق المعنى، لأنه يسمع الصوت، كونه يقف خارجه ومتقدمًا بحاسة عن منتجه، ألا وهى حاسة السمع.
هذا الإحساس الذى جاءنى وأنا جالس بجوارهم جعلنى أفكر وأتساءل: هل تكفى لغة الإشارة لتوصل كل المعاني التى تتحرك داخل الإنسان الأصم والأبكم؟ هل هذه الأصوات المكتومة هى مشاعر لم تجد لها إشارة أو شكلا لتدخل فيه؟ ربما داخل هذا النظام الرمزي للعلامات والإشارات تم حذف مشاعر لن تظهر أبدًا. ليس داخل هذا النظام الرمزي للصم والبكم فقط، بل داخل أى نظام رمزى بشكل عام. فبداخلنا هناك مجموعات من الأحاسيس التى تخرج فى شكل لغة وأصوات ومعان وصور، ولكن هل هى بالفعل تمسك بدقة بلب الداخل الذى نتكون منه ونشعر به. هل الأصوات والمعانى التى تخرج منا عند لحظات محددة معبرة بدقة عن طبيعة هذا الذى نشعر به فى تلك اللحظات؟ فأى نوع من الإدراك يستلزم تلك الهرمونية بين الإشارة أو الصوت وبين المعنى الدفين، بين المرئى واللا مرئى.
بالتأكيد قطعت البشرية خطوات تجاه تحرى الدقة، بالفنون والأديان والفلسفات، والشعراء، والسينما، ولكن تظل هناك شبهة عدم اكتمال قائمة: أن ما يخرج عبر هذا النظام الرمزي هو "شبيه" بما نشعر به، وليس هو بالتحديد، بل قريب منه. هذه "المسافة المفقودة" من سيملؤها؟
ربما يقودنا هذا الإحساس لإحساس آخر تماما: أن الإنسان ولد لا لكى يتفاهم مع غيره من البشر، أو ليكشف عما بداخله، أو أن يفضح وحدته؛ بل التفاهم وإنتاج العلامات والإشارات حدث بدون قصد عبر التفاعل، عبر تجربته الشخصية الفريدة، ورغبته فى تغلبه على وحدته وخروجه من كهف نفسه. هناك تجربة إنسانية فريدة قامت على تعمير الحياة بحق، لذا تنازل "هذا الإنسان" عن كهفه السرى الذى يحوى كل مفاتيح لغته وإشاراتها، ومدلولاتها وصورها، فى سبيل أن يتعارف، ويخرج إلى نور الخارج مضحيًا بجزء من انسجامه مع نفسه، هذا الجزء أو "المسافة المفقودة" هو الذى سيشكل حقبة سوء التفاهم المستمر بين ما يشعر به، وشكل التعبير عنه.
ربما كان الصوت، تاريخيا، أسبق من الإشارة، ولكن الإشارة جعلت الصوت يسير فى مسارات المعنى. للرمز ضريبة يجب أن تدفعها البشرية، كضريبة الدم تماما. ربما شلة هذا المنتدى الأسبوعي من الصم والبكم يمثلون جزءا نقيا مستمرا من بدايات البشرية، مرحلة خيالها المحض وظلالها وأوهامها؛ الخارجة توًّا من الكهف، والذين طوَّروا لغة إشارة بدون صوت، معتمدين فقط على المخيلة البصرية كبديل لهذا لصوت. ولم يدجن داخلهم تماما بهذه اللغة الإشارية، أو بطغيان النظام الرمزي، لذا هناك إبداع دائم ورغبة فى تخليق أصوات جديدة. فى كل شئون حياتهم هم على اتصال دائم بكهف الصور، بعكس الإنسان العادي الذى أتقن لعبة الرمز، وربما نسي تماما هذا الكهف الذى خرج منه بلا عودة، ولو مؤقتة.
ربما هناك مشاعر وأحاسيس ومعان وأسئلة لم تصل إليها الإنسانية فى التعبير عن نفسها حتى الآن، رغم تعدد الوسائط والفنون والفلسفات والأديان والأفلام، وربما هذا النقصان أحد أسباب أو الجدوى من استمرارها؛ إحساسها المرعب بأنها غير قادرة على تفسير كم هذه المشاعر الغامضة والآلام والأفراح المتجددة التى تتوالد باستمرار فى كل زوايا حياتها. ربما أيضا هناك خطأ أساسى ارتكبته البشرية، أنها نسيت تماما "مرحلة الكهف"، مرحلة الظلال والأوهام والحدوس، فخرجت منه إلى النور مباشرة، وقطعت الصلة بهذا الكهف الداخلي.