د. محمد مختار جمعة
من أسرار الإسراء والمعراج
لا شك أن رحلة الإسراء والمعراج رحلة ذات أسرار عظيمة. فهي رحلة فريدة في تاريخ الإنسانية. جاءت تكريماً لخاتم الأنبياء والمرسلين. وتسرية عنه "صلي الله عليه وسلم" بعد أن أصابه من أذي قومه وغيرهم ما أصابه. ذلك أنه "صلي الله عليه وسلم" بعد أن لقي من مشركي مكة في سبيل إبلاغ دعوة الله "عز وجل" ورسالته ما لقي من الأذي. خرج إلي الطائف لعله يجد عند أهلها النخوة أو النصرة. فكانوا أشد أذي وقسوة عليه "صلي الله عليه وسلم" من بني قومه. ذلك أنهم سلطوا عليه عبيدهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتي سال الدم من قدميه الشريفين. وتوجه "صلي الله عليه وسلم" إلي ربه "عز وجل" بدعائه الذي سجله التاريخ في سطور من نور : "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي. وقلة حيلتي. وهواني علي الناس. يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلي من تكلني؟ إلي بعيد يتجهمني؟ أم إلي عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك. أو يحل علي سخطك. لك العتبي حتي ترضي. ولا حول ولا وقوة إلا بك".
هذا الدعاء الذي يحمل كل معاني العبودية والانكسار لله وحده لا لأحد سواه. ذلك أن نبينا "صلي الله عليه وسلم" كانت حركاته وسكناته خالصة لله "عز وجل" حيث يقول الحق سبحانه وتعالي مخاطبا إياه : "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ہ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" "الأنعام : 162-163".
علي أن مقام العبودية في أسمي معانيها هو الذي سما بالحبيب "صلي الله عليه وسلم" إلي أعلي درجات الرقي والكمال البشري. حيث يقول الحق سبحانه : "والنجم إذا هوي ہ ما ضل صاحبكم وما غوي ہ وما ينطق عن الهوي ہ إن هو إلا وحي يوحي ہ علمه شديد القوي ہ ذو مرة فاستوي ہ وهو بالأفق الأعلي ہ ثم دنا فتدلي ہ فكان قاب قوسين أو أدني ہ فأوحي إلي عبده ما أوحي" "النجم : 1-10". وحيث يقول سبحانه : "سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" "الإسراء : 1" فقد عبر النص القرآني بقوله تعالي : "أسري بعبده" ولم يقل برسوله أو نبيه مع أنه "صلي الله عليه وسلم" خاتم الأنبياء والمرسلين وإمامهم. حيث يقول الحق سبحانه. : "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما" "الأحزاب : 40". ليدرك الناس جميعاً إلي يوم القيامة قدر مقام العبودية لله "عز وجل" والانكسار له والخضوع بين يديه. فإذا كان مقام النبوة والرسالة قد ختم بخاتم الأنبياء والمرسلين فإن مقام العبودية قائم إلي يوم القيامة في أتباع محمد "صلي الله عليه وسلم".
وهذا المقام يعلو بأمرين : الذكر واليقين في الله. حيث يقول سبحانه وتعالي : "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" "الرعد : 28" ومن هنا كان مفتتح سورة الإسراء بهذا التسبيح الرباني "سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" "الإسراء : 1" ويقول سبحانه في شأن التمكين لأهل الصبر واليقين في الله "عز وجل" : "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" "السجدة : 24".
إذ علينا أن ندرك ونتيقين أن الأمر كله لله. وأن الأمة لو اجتمعت علي أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ولو اجتمعوا علي أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. ويقول الحق سبحانه وتعالي : "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" "فاطر : 2" ويقول عز وجل : "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون" "الزمر : 38".