محى السمرى
ناس وناس -عندما وضعت الحكومة "الكلابشات" في يد التابعي !
أمضيت عمري كله منذ كنت طالباً في كلية آداب جامعة عين شمس في العمل الصحفي.. مررت بكل المراحل المهنية عندما كان ممنوعاً علي أي شخص ممارسة هذه المهنة إلا بعد القيد في نقابة الصحفيين.. وبالطبع كنا نعمل كمندوبين بدون أي حقوق وبعد حصولنا علي الليسانس أي المؤهل الجامعي.. تبدأ اجراءات انضمامنا للنقابة.. وكان هذا يتطلب موافقة مصلحة الاستعلامات ــ هيئة الاستعلامات فيما بعد ــ وموافقة مباحث الصحافة وهي إدارة تابعة لوزارة الداخلية وكذلك موافقة المخابرات العامة ثم الاتحاد القومي أو الاتحاد الاشتراكي ومع كل هذه الموافقات تأتي موافقة النقابة.
وكان القيد يتم من خلال لجنة قضائية برئاسة المستشار رئيس محكمة استئناف القاهرة.. وبعد أن تتأكد اللجنة من استيفاء الطالب لجميع الشروط يُصدر المستشار رئيس اللجنة القرار.. وفي حالة قبول الطالب حيث يقول: "مبروك يا أستاذ" وكانت أول مرة يقول رئيس اللجنة كلمة استاذ وهذا يعني أننا حصلنا علي لقب استاذ بحكم محكمة!!
وبصراحة كان انضمامنا إلي النقابة يشعرنا بفخر عميق يكاد يصل إلي حد الغرور.. فقد اعتبرناها بيتنا.. وحصن أماننا.. والحكم بيننا وبين المؤسسات الصحفية بالإضافة إلي بعض ألوان الرعاية الاجتماعية صحيح أنها كانت متواضعة لأن امكانياتها محدودة للغاية.. ورغم ذلك كانت محببة فعلاً إلي قلوبنا.. بل هي التي جعلتنا نحب مهنة الصحافة والتي تكاد تصل إلي حالة العشق حالياً رغم كل هذه السنوات التي أمضيناها في رحابها.. ومررنا من خلالها بعدة مراحل.. في البداية مندوب للجريدة في أي وزارة أو جهة.. نتابع ما يجري فيها.. لأن مهمتنا هي معرفة الحقائق وتوصيلها إلي القراء عبر صفحات الجريدة.. وكان في كل جريدة يجلس واحد من المسئولين الحكوميين يعرف باسم "الرقيب" وبيده القلم الآحمر يشطب علي أي خبر أو موضوع لا يعجبه تحت مقولة "ضار بالبلاد" ولا رقيب ولا معقب علي قراره!!
وتطورت الأمور وتم الغاء منصب الرقيب ليحل محله رئيس التحرير.. بل والمحرر نفسه. وبالتأكيد كانت هناك مشاكل تحدث.. وكثيراً ما تعرضنا إلي المساءلات القانونية.. وبعضنا وصلت الأمور معه إلي ساحة القضاء نتيجة لأي نشر مغلوط.
أردت أن أذكر تفاصيل العمل الذي كنا نقوم به والجهد الجبار الذي يبذله أي صحفي ينشد النجاح والشهرة.. والواقع أن مرتباتنا كانت ضعيفة للغاية ولا تتساوي أبداً مع مندوبي الإعلانات الذين يقومون بجلب الإعلانات للجريدة.. لم يكن علي رؤوسنا أي ريشة بل كان عملنا جباراً.. وكان نشر اسم المحرر علي العمل المنشور يعتبر علاوة حصل عليها وبالتالي لم يكن أي صحفي علي "رأسه ريشة" كما يتندر البعض حالياً.. كنا نكافح من أجل الوصول إلي الحقيقة ومعرفة الخبر أو كتابة تحقيق صحفي يوضح الحقائق حول موضوع معين.. كانت معاناة بمعني كلمة معاناة.. واتذكر أننا في الستينات وكنت مندوباً للجريدة في مطار القاهرة كنت ابقي طوال الليل وفي الشتاء والبرد.. انتظر وصول أو سفر شخصية ما لكي أحدثه وأنشر الخبر الخاص به!! ولم يكن اهتمامنا بالقيام بمظاهرات أو احتجاجات فهذا ليس عملنا ولكن من الممكن وصف ما نشاهده فقط!!
والحقيقة أن زملاء كبار لنا في هذه المهنة تعرضوا لمشاكل ما انزل الله بها من سلطان.. وتقول مثلاً السيدة فاطمة اليوسف في مذكراتها أن الأستاذ محمد التابعي كتب سلسلة من المقالات بدون توقيع عن الحياة الخاصة لملوك وملكات أوروبا بعنوان "ملوك وملكات أوروبا تحت جنح الظلام" وثارت الصحف المعادية لروز اليوسف وثارت الدوائر الأوروبية وأصدرت النيابة العامة أمراً بضبط واحضار رئيس التحرير والذي تم تفويضه بتولي المسئولية نظراً لسفر صاحبة المجلة إلي باريس والذي اعترف في تحقيقات النيابة بأن كاتب المقالات هو الأستاذ الكبير محمد التابعي فكان موظفاً في البرلمان في ذلك الوقت وقبضت النيابة علي التابعي ونزل الاثنان في زنزانة واحدة.. والمدهش أو الغريب أنه عندما تم القبض علي التابعي وضع البوليس القيود الحديدية في يديه وكانت هذه أول مرة توضع فيها هذه القيود في يد كاتب صحفي.. كما ذكرت فاطمة اليوسف المهم ان المرحوم عبدالقادر حمزة شن في جريدة البلاغ حملة عنيفة ضد تصرف الحكومة مع التابعي ووضعها القيود الحديدية في يد ممثل القلم.. وكان لهذه الحملة صدي كبير حيث أرغم الحكومة علي أن تفك هذه القيود.
ولم يسلم أيضاً عباس محمود العقاد من الحبس أكثر من مرة وحدث أن دب خلاف شديد بين مكرم عبيد وعباس العقاد.. وقال مكرم انه دافع عنه يوماً في احدي القضايا فرد العقاد بأنه كان يدافع بقلمه عن مكرم كل يوم وعندما تولي مكرم الدفاع عني خرجت محبوساً في حين دفاع قلم عباس العقاد جعله يخرج منصوراً علي خصومه "بفضل قلمي".. وغير ذلك من الأمثلة التي تعرض لها شيوخ المهنة في الأزمان الغابرة أيام الاحتلال والملكية وطبعاً أيام ثورة 23 يوليو.
ورغم كل هذه المتاعب التي يمكن أن يتعرض لها الصحفي إلا أنها مهنة عشقناها علي أساس أنها مهنة البحث عن المتاعب والبحث عن الحقيقة وفي بعض الأحيان الحقائق تصبح قيداً وقد تسبب مشكلة خصوصاً وأنها تعتبر سلاح السياسة الأول.. وهي بالتأكيد تخدم الوطن والمجتمع في أعلي صورة.
أما النقابة فهي بيت كل صحفي.. والواجب أن يحافظ كل شخص علي بيته من أي شائبة.. ولهذا فإن سلم النقابة يجب أن يكون له حرمه.. وأن يُمنع تماماً من استخدامه للمظاهرات والتجمعات.. لأنه الطريق إلي داخل البيت ومن غير المعقول أن يستخدم الآخرون السلم ويمنع السكان أي الصحفيين من استخدامه فقط في الدخول إلي البيت وليس لأي غرض آخر وستظل نقابة الصحفيين دائماً بيت كل الصحفيين وفيها يجدون الرعاية الاجتماعية ولا شيء غيرها وكل صحفي لديه جريدته يعبر فيها عن آرائه.. أما الهتافات والمظاهرات فلا مجال لها في أي بيت!!