فاطمة قنديل
فاطميات- نحن نحب القمح .. ونحب الحرية
«لا، لا، مش فنانة خالص، أنا شاعرة بس»! فاطمأن، وأرسل معي أحد الجنود لتخليص الأوراق، في الردهة أصابني الفزع، لحداثة سني وقتها، حين مر أمامي طابور «ضبطية آداب»،
في أواخر الثمانينيات، دعيت إلي «مهرجان المربد» الشعري في العراق (حين كانت العراق عراقنا)، كنت في العشرينيات، أحمل زيجة فاشلة، وورقة طلاق، وكان الشعر ملاذا أيامها، وخلاصا، تقدمت للجوازات لتجديد جواز سفري، حسب الحالة الاجتماعية الجديدة، فنظر إلي الضابط متسائلا: مطلقة؟ أجبت بتلعثم: نعم. وبجرة قلم:»مطلوب موافقة مباحث الآداب»!تسمرت أمامه وأنا لا أفهم، وسرعان ما أزاحني حشد المنتظرين عن النافذة الحديدية التي يطل منها علينا. في منزلي حاول أقربائي تهوين الأمر بأن هذا هو القانون، وليس إهانة شخصية موجهة لي تحديدا ( ظل هذا القانون لسنوات، ومن محاسن سوزان مبارك «النادرة» إلغاؤه) وتبرع أحدهم للذهاب معي لمعرفته بأحد ضباط مباحث الآداب، قابلنا الرجل بابتسامة، مستفسرا: «حضرتك فنانة»؟! خمنت ما وراء السؤال بسرعة أدهشتني أنا نفسي: «لا، لا، مش فنانة خالص، أنا شاعرة بس»! فاطمأن، وأرسل معي أحد الجنود لتخليص الأوراق، في الردهة أصابني الفزع، لحداثة سني وقتها، حين مر أمامي طابور «ضبطية آداب»، داريت فزعي بمحاولة تودد للجندي، ومحاولة إبعاد نفسي عما يحدث أمامي: «ربنا يتوب عليهم»، فضحك: «مايقدروش، بنشغلهم تاني مرشدين»! لم أنس هذه العبارة طيلة ما يزيد علي ثلاثين عاما، رغم أنني من النوع العابر لحياته، لا المقيم في ذكرياته، وظلت تقفز إلي ذهني كلما رأيت أمامي أشباه أولئك النسوة وهن يُحشدن في الانتخابات، وفي ميادين الثورة، وأمام نقابة الصحفيين منذ أيام، يسببن المتظاهرين بأفحش السباب، لاتخطئهن العيون وهن يرقصن، وعلي خدود بعضهن آثار «بشلة» قديمة، تدل، كأشياء أخري، علي العلامة المعروفة التي يحدثها في وجه الفتاة أول شخص اعتدي عليها! بعد أن نكبر ونشتغل بمهنة الكتابة نفهم البؤس، وتتملكنا الشفقة، ويتملكنا الغضب أيضا. تتغير القوانين، لكن المنهج واحد، لأكثر من ثلاثين عاما! ليست هذه الحكاية، التي تبدو شخصية، منفصلة عما يحدث هذه الأيام، فالشاعرة التي ذهبت بعد استيفاء الأوراق، ليصفق لشعرها الجمهور، كممثلة لمصر، كانت سعيدة، لكنها لم تنس ما حدث، وظلت سعادتها «منقوصة»، والشاعرة الشابة وهي تخطو نحو الستين الآن، تتأمل حقول القمح الذهبية وتدمع عيناها، أملا، وتتأمل المشهد القديم أمام نقابة الصحفيين، وتسمع الكلمات القديمة: « هذا هو القانون، وليس إهانة شخصية موجهة للنقابة»،وتدمع عيناها أسيً. لن أخوض في التفاصيل، فلست «صحفية»، وإنما أنا مجرد عابر سبيل علي هذه الصفحة، ولم أكن «طبيبة»، حين كتبت عن دعمي، غير المشروط، للأطباء ضد ممارسات الداخلية، أنا أستاذة جامعية، تعلم أبناؤها في الجامعة أن يحبوا القمح، وأن يحبوا العِلم، وأن يحبوا الحرية، وتعرف جيدا أن «كرامة» الإنسان، وكرامة الأوطان، هي خلاصة هذا كله، وأن عقول الطلاب في قاعات الدرس ليست مجرد عروس قطن نحشوها بالمعلومات، قاعات الدرس مفتوحة علي الشمس، وعلي الأفق، وعلي المستقبل، كحقول القمح، لا تشبه ردهات وزارة الداخلية، حين رفض الصحفيون إذاعة أخبارها، فأغلقت علي نفسها أبوابها، لتذيع أخبارها، وتبشرنا بافتتاح سجونها الجديدة علي صفحتها الالكترونية! مثمنة شبكات التواصل، التي كانت تلعنها، حين تنشر ما لا يأتي علي هواها، وهوي وزيرها! لقد انتقدت كثيرا علي هذه الصفحة، لما يقرب من عامين، ممارسات الداخلية، ليس تجاه قطاعات من المواطنين فقط، وإنما تجاه ضباطها وجنودها أنفسهم، فليست الممارسات الجهول إلا تشويها لما يبذله المخلصون فيها من جهد وأرواح،..وقمح! كما انتقدت أيضا ممارسات الإعلام بصحافته وفضائياته، وشبكاته الإليكترونية، ولو أحصيت كلمات ما كتبت لأصدرت بها كتبا، لأنني تعلمت أن النقد آلية للبناء، تماما كالموت حين تنبثق منه الحياة، وتنبثق الحياة من الموت، لكنني أجد نفسي وكأنني أكتب كل أسبوع حاشية عليا نتهاكات تلو الانتهاكات، وكأن ما نكتبه سنبلة قمح تفركها الأصابع، وكأن قدرنا نحن الذين نحب القمح ونحب الحرية أيضا، أن نعجن خبزنا بالدموع، ونحصد القمح، لا»بروح» القانون المتطلعة للأفق البعيد كسنابله، وإنما «بمنجله»!