جمال سلطان
الأمل ينتصر على الخوف .. هنا لندن !
فاز السياسي البريطاني المسلم من أصول باكستانية "صديق خان" بمنصب عمدة لندن ، إحدى أهم وأعرق عواصم العالم قاطبة ، ليصبح هذا "المسلم" الذي انتشرت صوره وهو بثياب الإحرام يؤدي مناسك الحج المسئول الأول والمباشر عن خدمات وأمن ومصالح حوالي ستة ملايين مواطن بريطاني هم سكان العاصمة لندن ، الإعلام العالمي اعتبر المفاجأة في الخبر هي صفته الدينية ، أنه مسلم ، وهذه واقعة غير مسبوقة في أي عاصمة أوربية ، ناهيك عن عاصمة عريقة وكبيرة مثل لندن ، ولكن الحقيقة أن فوز صديق خان يمثل بالنسبة لنا ، نحن العرب أو نحن المصريين مفاجأ أخرى ، لا تخلو من دلالات تستوجب التوقف عندها مقارنة بأحوال بلادنا وسياساتنا وأجوائها السياسية والأمنية والاجتماعية . صديق خان الذي فاز بمنصب عمدة لندن ، فاز رغم أنف رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ، الرجل الأول في السلطة بموجب النظام البرلماني ، الذي ألقى بثقله كله وراء مرشح حزبه الحاكم ، حزب "المحافظين" ، وحاول بكل سبيل تشويه صورة "صديق خان" حتى باستخدام أساليب رخيصة من منتجات العالم الثالث ، فاتهمه بأنه على صلة بالإرهابيين الذين يهددون أمن بريطانيا ، وهو نفس الكلام الذي كان يردده المرشح المنافس "جولد سميث" الذي اجتمعت له كل خلطة الانتصار ، فهو ثري ومن أسرة ثرية ، وهو يهودي ، وهو مرشح الحزب الحاكم ، وهو المدعوم من رئيس الحكومة ، بينما "صديق" فقير ، ومسلم ، وأبوه سائق أوتوبيس وأمه خياطه ، ومرشح لحزب العمال المعارض ، واستخدم "سميث" الأساليب القذرة ذاتها لتشويه منافسه ، فقال أنه متطرف دينيا وأنه على صلة برموز إرهابية وأنه شكل غطاء للإرهاب الذي ضرب بريطانيا ، والحقيقة أن هذه الاتهامات التي تطلق بسخاء في بلادنا على أي معارض بارز ، لم تكن كافية عندنا فقط لإسقاط هذا المرشح ، بل وكافية للذهاب به إلى إحدى دوائر الإرهاب في المحاكم ، ولكن دولة المؤسسات العريقة والشعب البريطاني ألقى بكل هذه الاتهامات خلف ظهره وانتخب هذا المرشح ليكون عمدة العاصمة ، وهذا هو الفارق بين الغوغائية السياسية التي تسود عن عمد في العالم الثالث وتحكم غالبا ، وبين العقلانية السياسية التي تحكم الناخبين في أوربا ، وإن شئت الدقة ، فقل هو الفارق بين ديمقراطية مزيفة لا تمثل أكثر من كونها نوعا من النياشين التي يضعها الحاكم المستبد للزينة على صدره ضمن باقي نياشينه ، وبين الديمقراطية الحقيقية التي يشعر فيها جميع المواطنين أنهم أصحاب القرار ، مع العلم أن الغوغائية موجودة هناك أيضا ، وما فعله سميث وكاميرون لا يعدو أن يكون وجها للغوغائية ، ولكن الديمقراطية الحقيقية تحمي المواطن ، وتكبح جماح السلطة ، وتمنح المواطنين القدرة على التمييز والاختيار وتمنع الحكومة من استخدام أدواتها الأمنية والإعلامية والقانونية و"الشبيحة" للتأثير على الرأي العام أو تخويفه أو تزوير الحقائق أمامه . صديق خان المنتصر ، عندما علق على فوزه ، اختصره في عبارة صغيرة ولكنها ذكية وعميقة ، قال : لندن اختارت اليوم الأمل بدلا من الخوف والوحدة بدلا من الانقسام" ، والمؤلم أن هذه العبارة ترسم ملامح واقع معاكس تماما لما يحدث في بلادنا أو في العالم العربي بشكل عام ، فنحن هنا بلاد تختار الخوف بدلا من الأمل والانقسام بدلا من الوحدة ، ونتلذذ بذلك أيضا ، لذلك تسير بلادنا من سيء إلى أسوأ ، ومن ارتباك إلى فوضى ، ومن قلق إلى خوف ومن خوف إلى ضياع الأمل ، بينما هناك ، عند "صديق خان" ، أمم تصنع حضارة ، وتبني رفاهية شعوبها ، وتعزز قوة الدولة وليس السلطة ، بلاد غير مشغولة بالبحث عن "الزعيم" أو البطل الخارق ، أو المنقذ ، أو الدكر ، هناك الشعب هو الزعيم وهو المنقذ وهو الدكر . مبروك يا صديق ، وادع لنا يا ابن الحلال !!