د. نصر محمد عارف
عندما يظن ناقلو الأخبار أنهم يصنعون أحداثها…!
تعدد المهن والوظائف ضروري لاستمرار حياة الإنسان والمجتمع، ولكل مهنة موقع في خريطة المجتمع الإنساني؛ لا يمكن الاستغناء عنها، أو تهميشها، ولا بد أن ينال أهلها كل الاحترام والتقدير لما يقومون به من خدمات لمجتمعاتهم، وللإنسانية جمعاء، ولكن من الضروري أن ينظر أصحاب هذه المهنة أو تلك إلى أنفسهم بنفس المنظار، وإلا اختل النظام وارتبك المجتمع، فلا يرون أنفسهم أقل من الآخرين، ومن ثم يحتقرون مهنتهم، فلا يبدعون فيها، ولا يتمتعون بممارستها، وسريعًا ما يهجرونها؛ لأنها عار ونقيصة يجب التحرر منها، وفي الوقت نفسه؛ من الخطر أيضًا أن ينظر أصحاب مهنة من المهن أنهم فوق الآخرين وأنهم الأفضل، والأعلى وأسياد الناس، هذا بدوره يدمر العلاقة بين أصحاب هذه المهنة وبين المجتمع، وقد رأينا ذلك في مهن ضباط الشرطة والأطباء ووكلاء النيابة والقضاة…الخ جميعهم يرون أن وظائفهم مكانة اجتماعية عالية، وليست مهنا ووظائف مثلها مثل باقي المهن: كالتعليم والهندسة والمحاسبة والسباكة والحلاقة، لذلك ترتبك علاقة هؤلاء بالمجتمع وتتعقد، وتصبح في وضع متوتر بصورة دائمة.
قبل الربيع العربي الذي صار خريفا بسبب حماقات الطبقة السياسية والثقافية، كانت مهنة الصحافة هي مهنة المتاعب، والتضحيات، هي مهنة الأبطال الساعين خلف الحقائق مهما كلفهم ذلك من عناء وأثمان، ولكن مع ظهور القنوات الفضائية الخاصة في مصر، واعتمادها على الإعلانات وفتياتها، صاحب ذلك انتشار البرامج الحوارية التي قدمها عدد من الصحفيين الذين تحولوا إلى جزء من عمل إعلاني ضخم، يخدر الشعب، ويزيف الوعي ويضخ الملايين في جيوب كل من الصحفي مقدم البرنامج وصاحب القناة.
أما بعد ثورات الربيع العربي، واعتماد تلك الثورات في انتشارها واستمرارها ونجاح بعضها على الإعلام؛ سواء التلفزيوني أو الصحفي أو الإعلام الجديد المتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي … هنا حدث تحول كبير جدا في مهنة الإعلام قادته قناة الجزيرة القطرية، ثم انتشر إلى باقي وسائل الإعلام الصحفي أو التليفزيوني، وذلك حين تضخمت نفوس مذيعي الجزيرة، وتحولوا إلى بالونات منفوخة تفوق الواحدة منها أكبر منطاد طائر، فقد ظن مذيعو الجزيرة أنهم هم من صنع الثورات العربية، ومن ثم تحولوا إلى أوصياء على العالم العربي، وظن كل واحد منهم أنه يستطيع تحريك الشعوب وتغيير الحكام، انتقل نفس الأمر إلى مصر خصوصًا مع إسقاط نظام حكم الإخوان، والدور الذي لعبه مقدمو البرامج الحوارية في القنوات الخاصة في مصر، هنا …. تحول الصحفيون ومقدمو البرامج الحوارية إلى كيانات متضخمة، على الرغم من قلة بضاعتهم وكسادها، تحولوا إلى صناع أحداث، وظن الواحد منهم أنه قادر على إسقاط أي نظام، لذلك تحولوا إلى أوصياء على الدولة المصرية، وتعاملوا معها على هذا الأساس.
إن تحول إدراك الصحفيين والإعلاميين من ناقلي أخبار، أو ناقلين لوقائع تحدث في الواقع دون تدخل منهم، إلى صانعي أحداث وخالقي وقائع، ومتحكمين في الواقع، هذا التحول هو أصل الأزمة التي تعيشها مصر منذ سقوط حكم الإخوان، فقد تحول الإعلاميون والصحفيون إلى أوصياء على الدولة والمجتمع، يتكلمون بنبرة متعالية، فيها من التأنيب والتقريع، والسب العلني لمسؤولين كبار في الدولة وللمجتمع كله، وفيها من السلطة والسطوة التي تخول لبعض صغارهم من أن يوجه أوامر مباشرة للدولة ورئيسها، أو للتسعين مليون مصري، بقوة لم تتح للأنبياء من قبل.
هذا التحول في الوعي والإدراك أدى إلى إن أن يفقد الصحفيون والإعلاميون وعيهم بدورهم ووظيفتهم، وتتحول مهنتهم إلى جزء من ذواتهم، فتتضخم ذواتهم، وتتعالى نفوسهم، وينعزلون عن الدولة والمجتمع، بحيث يرون أنفسهم فوق المجتمع، لا يجوز أن يحدث معهم ما يحدث مع الآخرين.
كنت أتمنى أن تكون وقفة نقابة الصحفيين للدفاع عن حقوق الإنسان المصري بكل أطيافه وخلفياته واختياراته الفكرية والأيديولوجية… ولكن للأسف كانت للدفاع عن الذات الصحفية المتعالية… كنت أتمنى أن تكون وقفة نقابة الصحفيين كمؤسسة تحترم الدستور والقانون، وتتعامل من داخله وبه وفيه… ولكن للأسف تعاملت كقبيلة تواجه الدولة وتضرب عرض الحائط بقرار النائب العام -بغض النظر عن صحة هذا القرار- بنفس الطريقة التي يتعامل بها أي خارج عن القانون… كنت أتمنى أن تكون نقابة الصحفيين قدوة للمجتمع ولباقي المؤسسات في الدفاع عن الحريات دون السعي لخلط الأوراق لتحقيق مكاسب سياسية شخصية أو فئوية على حساب الدولة والمجتمع… تمنيات ضاعت في واقع خلقته حالة الخلط بين نقل الأحداث وبين التوهم بصناعتها.