“الرئيس عظيم.. لكن المشكلة فيمن حوله” .. إحدى أسوأ الجمل وأحطها في تاريخ النفاق العربي، يستدعيها الآن –على قدمها واهترائها- أنصار عبد الفتاح السيسي كما لم تسدع من قبل.. فعند الملمات التي لا يجدي معها أي تبرير، مثل انخفاض قيمة الجنيه، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، أو مقتل الباحث الإيطالي، أو تجاوزات وجرائم الشرطة… يرفع أعلام النفاق أصواتهم: الرئيس لا يعلم.. هناك من يريد توريط الرئيس.. وزير الداخلية يحرق البلد.. الحكومة ليست على قدر طموحات القائد…
ووفقا لهؤلاء المطبلين المرتزقة، فإن الرئيس ذكي، لكنه اختار لوزارته أغبى الناس.. مؤتمن، لكنه اختار وزراءه من اللصوص.. مهذب، لكنه يصدر السفلة في إعلامه.. رفيق بالفقراء، لكن وزراءه قساة القلوب.. يعمل بجد، لكن رجاله الذين اختارهم بنفسه يورطونه ورطة تلو ورطة.
ومع وقع الصدمة الهائلة لاقتحام مقر نقابة الصحفيين، تكثف استخدام العبارة المنحطة لفظا ومعنى، فياسر رزق رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم يؤكد أن “الرئيس لا يعلم”، وأنه “لا يقبل”، وأنه “سيحاسب من اتخذ هذا القرار”.. والحقيقة، أن رئيسا لا يعلم، لا يصح أن يبقى رئيسا ليوم واحد، فما بالنا برئيس يدعي أن الله خلقه طبيبا، ينصت إليه كبار فلاسفة العالم، ويطالب المصريين ألا يستمعوا إلا له؟.. لكن الجريمة أخجلت أقرب صحفي للرئيس، فخرج بالتبرير الفج: الرئيس حلو.. ورجالته وحشين.
نقيب الصحفيين الأستاذ يحيى قلاش، خرج هو أيضا بتصريحات يحمل فيها وزير الداخلية المسؤولية عن اقتحام النقابة، مطالبا الرئيس السيسي بالتدخل.. وكأن قرارا بهذا الحجم والخطورة، يمكن أن يصدر من وزير أو رئيس وزراء، دون رجوع إلى الرئيس، وتلقي تعليمات واضحة منه.. أظن أن للأستاذ قلاش من الخبرة والتاريخ النضالي النقابي والوعي بأجهزة الدولة وطرائق عملها، ما يجعله متيقنا أن وزارة الداخلية تحديدا هي الوزارة الوحيدة التي تمتلك سياسة ثابتة، لا تتغير بتغير الوزير كما يحدث في “الصحة” أو “التعليم” أو “الزراعة” مثلا.. إنها واجهة النظام السياسي وممثله الأول، والمعبر الفعلي عن نظرته للشعب وأساليب التعامل معه.
الأستاذ عماد الدين حسين، رئيس تحرير صحيفة الشروق، يعد من أكثر أصحاب الأقلام كلاما في “الشكل”، فهو دائما ما يدين “الإخراج”، ويرى أن من حول الرئيس يفتقدون إلى الكياسة، ولا يقدرون عواقب القرارات، وأنهم يسيؤون إلى الصورة العامة للدولة، ويزيدون الهوة بين الشعب والحكومة.. والرجل يعلم جيدا –وبحكم موقعه- مَن بيده مقاليد الإدارة، ومن يصدر الأوامر العليا، لذا من الصعب جدا أن نرجع موقفه إلى افتقاد الدراية، أو نقص المعلومات.. لكنه يصر أن يُرجع الجزء الأكبر من الأزمة إلى “الكائنات الإعلامية الجهولة” كما وصفها في مقال الأحد، متحدثا عن أزمة الباحث الإيطالي، أما قرار اقتحام النقابة فقال عنه أن من اتخذه “أساء بصورة لا يتخيلها إلى وزارته وإلى الحكومة والرئاسة وكل مؤسسات الدولة، وسيجعل الحكومة تدفع ثمنا باهظا ومجانيا لهذا الاقتحام، ويستحق جائزة نوبل وكل الجوائز العالمية فى الحماقة وسوء التقدير وتلبيس البلد فى الحيط”.. كما جاء في مقال الاثنين.
إنه العجب.. رئيس ينتقي من بين 90 مليون مصري من يتواطؤون على إحراجه والإساءة إليه، و”تلبيسه في الحيط”.. رئيس جعل دائرته كلها من المطبلين لسياساته، ومن الإعلاميين الجهلاء، ومن الوزراء غير المؤهلين لمواقعهم، وبقيادات أمنية تدوس القانون بأقدامها.. حتى إذا وقعت الواقعة، أو تفاقمت الأزمات، أشار أنصاره بأصابع الاتهام إلى المسؤولين لا إلى الرئيس، وإلى المُختار، وليس من اختار.
والحقيقة التي لا ريب فيها أن المرء على دين خليله، وأن الطيور على أشكالها تقع، وأن عديم المواهب، محدود القدرات، عيي اللسان، فقير الفكر، قصير النظر، لن يختار بجواره إلا من هم أقل منه شأنا، ممن يتقربون إليه زلفى، ويجعلون من أنفسهم أدوات لأهوائه وخبله.. وأن اللص يميل إلى اللصوص، والكذاب يأنس إلى الكذابين، والرئيس الذي يكره السياسة سيتجنب السياسيين لحساب المطبلين.
والحقيقة أيضا، أن من يشتمون وزير الداخلية لتبرئة الرئيس من جريمة اقتحام النقابة، ومن يجترؤون على رئيس البنك المركزي لغسل يد الرئيس من أزمة الدولار، ومن يحملون رئيس الوزراء مسؤولية عدم تنفيذ مشاريع كبرى وعد بها السيسي، ومن يرون أن من قتل رجيني فرد في جهة أمنية تسيء للرئيس.. الحقيقة أن كل هؤلاء لا يختلفون بأي حال عن من يبررون خطوات كل المسؤولين، ويدافعون ليل نهار عن الأجهزة الأمنية والحكومة والقضاء.. ومهما ادعى هؤلاء المتجملون من معارضة ونقد ورفض لما تقترفه “الحكومة” فسيبقون على حقيقتهم الأصلية: موسويين بكريين عزميين حوفيين شوباشيين.. يمسحون البلاط، ويجمعون النقاط.