وقد لايصح أن نحمل جهاز الأمن المسئولية كلها، وثمة أحمال كثيرة فوق أن تتحملها طاقة الجهاز الأمني
معادلة الأمن والحرية هي أخطر ما تثيره الأزمة الأخيرة بين وزارة الداخلية ونقابة الصحفيين، فلا جدال في احتياج المصريين كغيرهم إلي الأمن، ولا جدال في التقدير العام لتضحيات الشهداء في الحرب مع جماعات الإرهاب، لكن الفارق كبير بين ضمان الأمن ونشر الترويع، ودهس الحريات العامة لا يصنع أمنا، بل يفاقم الخطر، وينشر القلق، ويترك الساحة خالية لنوازع انتقام ثأري، تضاعف جاذبية ظاهرة الإرهاب نفسها، وتميت حيوية المجتمع، فالعبيد لايصنعون الحرية ولايحفظون الأمن.
وقد حزنت مصر كلها علي الشهداء في حرب الإرهاب، وآخرهم شهداء الشرطة الذين جري اغتيالهم في عملية خسيسة بحلوان، فالحزن ـ كالفرح ـ يوحد مشاعر المصريين، ولا يختلف عاقل علي أولوية كرامة الشهداء، فهم عناوين للبلد، وليسوا مجرد أفراد من جهاز بعينه، ولا من مؤسسة بذاتها، وإن كان يجب علي المؤسسة الأمنية أن تحفظ كرامة دم الشهيد، ليس فقط برعاية الأسر، ولا بمنح الزوجات والأمهات والأبناء امتيازات مستحقة، بل قبل ذلك وبعده، بالسلوك الملائم لحفظ مقام الشهداء، والابتعاد عن السيئات المشهورة لمنتسبين إلي جهاز الأمن، فحسنة الشهداء تخص ذكراهم الجليلة، لكن السيئات تعم كالعادة، وتنسي الناس بركة الشهداء، وهو ما يعني ضرورة التطهير الشامل لجهاز الأمن وتطوير كفاءته المهنية، وفصد الدم الفاسد لضباط الرشاوي والانتهاكات والتواطؤ مع الإجرام والبلطجة، وعلي نحو ما تكشف في تورط ضباط كبار وصغار في خدمة «عصابة الدكش»، أو في ظواهر الانفلات المريع لضباط وأمناء شرطة، وتواتر حوادث قتل المواطنين بالسلاح «الميري»، أو في الإهمال وتدني الكفاءة، الذي يعرض حياة رجال الشرطة للخطر المجاني، ويقدمهم ضحايا للتقصير الأمني، فالحرب ضد الإرهاب حرب معلومات بالأساس، وحرب ذكاء وتوقع، وحرب اعتماد علي الدقة واليقظة وجودة التدريب والتكنولوجيا المتطورة، وليست حرب حشود أمنية عشوائية، وقد تابع المصريون حوارا مذاعا بين الرئيس السيسي ووزير الداخلية الحالي، كانت المناسبة هي افتتاح المقر الجديد للداخلية في أكاديمية الشرطة، وسأل الرئيس عن طرق التأمين المتبعة لمقر وزير الداخلية، وفوجئ بتخصيص آلاف الضباط والجنود للحماية، وبما يستنزف من ميزانية الدولة المنهكة عشرات الملايين من الجنيهات، ولايوفر في الوقت نفسه ضمانا أمنيا يعتد به، ووجه الرئيس بالاعتماد علي كاميرات مراقبة حديثة مع أقل عدد من الأفراد، وبدا السجال كله في صورة توبيخ علني من الرئيس، كشف عن بدائية التدابير الأمنية، وبما لايحفظ أمن المواطنين، ولا حتي أمن النظام نفسه.
وقد لايصح أن نحمل جهاز الأمن المسئولية كلها، وثمة أحمال كثيرة فوق أن تتحملها طاقة الجهاز الأمني، فمواجهة الإرهاب من مسئولية جهاز أمن يجب تطويره وتطهيره، ورفع أطنان الشحم الزائد فيه، كما أن الأمن العام من مسئولية وزارة الداخلية بطبائع الأحوال، وكذا تطهير البلد من عصابات البلطجة وخطف الناس، وتنفيذ ملايين الأحكام القضائية المعطلة، وهذه المسئوليات وغيرها تكفي وتزيد، وتحتاج إلي إعادة صياغة شاملة لجهاز أمن يحترم أولويات وأبجديات القانون، ودون تحميله عبء السياسة الغائبة، فليس من مسئولية جهاز أمن أن يمارس السياسة، ولا أن يتدخل فيها، ولا أن يجلب زرافات ممن نطلق عليهم صفة «المواطنين الشرفاء» بحسب التعبير المصري الساخر، ولا أن يصرف عليهم من مال الدولة «السايب»، فهذه كلها عوارض لخلل فادح، ولا بد من التمييز الصارم بين الإرهاب والسياسة، ووضع الخط الأحمر الفاصل، وهو ما يجعل المجتمع داعما لحرب الأمن ضد الإرهاب، ولكن دون أن يتغول جهاز الأمن علي حريات الناس، ولا أن تكون وظيفته غلق سبل السياسة السلمية، ولا العودة المزادة المنقحة إلي ممارسات قبيحة، كان بطلها «حبيب العادلي» الذي يحاكم الآن مجددا، ولا إلي جرائم المصروفات السرية المقدرة بمليارات مما يتهم به «العادلي» وزمرته، ولا إلي تجنيد عملاء وتابعين في الجامعات والأحزاب والنقابات وأجهزة الإعلام وغيرها، ولا إلي استدعاء كتائب «المواطنين الشرفاء» في حروب الإيذاء لمواطنين يطلبون الحرية، فكلها ممارسات معروفة العواقب، وقد صارت مثارا لسخرية المصريين، فليس بوسع أي وزير داخلية حالٍ، أن يلبس جلباب حبيب العادلي، ثم ينتظر من الناس تصديقا ولا خوفا، ولسبب غاية في البساطة، وهو أن شعب حبيب العادلي «تعيش أنت»، لم يعد له وجود، وتفتح وعي ملايين المصريين، وكسروا حواجز الخوف القديمة، وحكموا عليها بالخسران المبين.
وليس صحيحا أبدا أن ضمان الأمن يعني إلغاء الحرية، فالإرهاب ظاهرة عالمية الآن، ومواجهته تتأتي بتطوير كفاءة جهاز الأمن، وبتعبئة المجتمع ضد مخاطره، وليس بالقمع النازل «عمال علي بطال»، فقد تعرضت فرنسا ـ مثلا ـ لموجة إرهاب عاتية، وجري إعلان حالة الطوارئ واليقظة التامة، ودون أن يعني ذلك حجرا علي الحريات الأساسية، ولا إلغاء لحقوق التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، وقد شارك ملايين الفرنسيين في المظاهرات ضد قانون العمل الجائر، واعتصم المئات في الشوارع لمدد طويلة جدا، ودون أن يتهمهم أحد بالسعي لقلب نظام الحكم، وقد نتفهم حقيقة أن مصر ليست فرنسا، وأننا في درجة أقل من التطور الديمقراطي، لكن الفارق الحضاري لا يبرر أبدا ضراوة وتغول القمع عندنا، خاصة أن السلطة لاتمل ولاتكل من الحديث عن الديمقراطية والدستور ودولة المؤسسات، وهي أقوال تفتقر إلي أفعال تؤيدها، فليس بالقمع تبني الأمم، ولا بملء السجون المكتظة بعشرات الآلاف من المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب المباشر، ولا بحصار ودهس النقابات علي طريقة ما جري لنقابة الصحفيين، وخلق أحوال احتقان لاتفيد سوي المتربصين.
نعم، تفكيك القيود وإطلاق الحريات أفضل وصفة لتحسين صورة البلد، وضمان أمن مواطنيه بالاختيار والاقتناع لا بالقهر، ووضع الريشة ـ حيث تستحق ـ فوق رأس القانون وحده.