عقب 30 يونيو مباشرة بدأ الإعلام، خصوصا المرئى، فى حرق العديد من الشخصيات التى كان ممكنا لها لعب أدوار فاعلة فى حاضر البلاد ومستقبلها السياسى، وكذلك فى هجاء العديد من القوى السياسية والأحزاب التى يمكنها تقديم بديل سياسى. كما سار الإعلام نفسه مع وزارة الداخلية شوطا طويلا على الطريق ذاته فى شيطنة الناشطين السياسيين، والعاملين فى إطار المجتمع المدنى، خصوصا الحقوقيين منهم. ثم أكتمل الطريق، وحدها هذه المرة، بالسعى إلى إهانة أعضاء النقابات المهنية التى تشكل عصب الطبقة الوسطى المدنية، الواحدة تلو الأخرى، حيث بدأ بالعدوان على المحامين على نحو اضطر الرئيس للإعتذار لهم. ثم الأطباء، خصوصا فى واقعة مستشفى المطرية الشهيرة، والتى أفضت إلى أول تظاهرة فئوية حضرها نحو عشرة آلاف طبيب دفاعا عن كرامة الزملاء والمهنة. وأخيرا الصحفيون الذين اعتقلت ثلاثين منهم شاركوا فى تظاهرة «جمعة الأرض»، قبل أن تقع خطيئة الاقتحام غير المسبوقة، الأمر الذى فجر بركان الغضب لدى الأغلبية الساحقة من الصحفيين.
وبدلا من الاعتذار عن الخطيئة أمعنت فى الخطأ وبذلت جهدا فائقا فى تشويه صورتهم، والإساءة لنقابتهم، وجرى الترويج لفوضوية الصحفيين، ورغبتهم فى الإستعلاء على عموم الناس، برفض تطبيق القانون عليهم، وكأن ريشة ملكية قد وضعت على رءوسهم، وهنا تم تجاهل عدة حقائق أساسية:
الأولي: أن الريشة، إذا وجدت، فهى على رأس المجتمع المعنى بتلقى الرسالة الصحفية وليس الصحفى نفسه، فما يضمنه الدستور وتؤكد عليه القوانين إنما هى حرية الصحافة، أى المهنة نفسها باعتبارها ضمانة أساسية لحرية المجتمع وحقه فى المعرفة بما يدور حوله، وذلك بدعم مفترض من السلطة التى يتوجب عليها إتاحة المعلومات الصحيحة، وليست هى حرية صحفى بذاته، أو خارج الإطار المهنى، فليس للصحفى، مثلا، حرية ارتكاب الجرائم، أو مخالفة القانون فى شتى صوره. بل إن حريته حتى فيما يتعلق برسالته الإعلامية إنما تخضع لضوابط مرعية وأعراف مستقرة، فلا يستطيع الحديث عن قضية منع فيها النشر بقرار من النيابة العامة، أو تسريب أسرار عسكرية تمس الأمن القومى، على فرض أنه قد عرف بعضا منها.. وهكذا. بل إن حرية الصحفى قد تصبح عبئا عليه عندما يهم بالكشف عن حقيقة لا تروق للسلطة أو لأجهزة الأمن، أو حتى لبعض ذوى النفوذ، حيث يجاهد بعض الصحفيين لنشر الحقيقة ولو أدى ذلك إلى اعتقالهم أو اغتيالهم، أما الذين يبدون حيادا إزاء الحقيقة، فلا يصيبهم ضرر، فيما يحصل أولئك المستعدون للتغطية عليها أو تزويقها، على نفع كبير. والمفارقة هنا أن الذين يبدون الحياد أو التواطؤ لا يحتاجون إلى الحرية فى شىء، إذ يكفيهم الصمت، فيما طالبو الحرية يعانون منها، ويتحملون أكثر أعبائها فى مواجهة أعدائها. فمثلا، يستطيع أى صحفى أن يكتب بسهولة، ربما وهو جالس فى مكتبة، معبرا عن وجهة نظر الداخلية فى قضية كالتى ارتكبها أمين الشرطة بالقاهرة الجديدة، عندما قتل عامل شاى لمجرد خلاف على ثمن علبة سجائر وكوب شاى لا يزيدان على ثلاثة دولارات. أو القضية التى قتل فيهاسائق الدرب الأحمر لمجرد خلاف على أولوية المرور، ففى تلك الحالة يضمن ألا يناله سوء، بل الأغلب أن ينال الحظوة، وربما تلقى اتصالات عالية المستوى تعبر عن الإشادة والامتنان. أما الصحفى الذى يدافع عن عامل الشاى، أو سائق الميكروباص، فسوف يذهب بالضرورة إلى موقع الحدث، ويتحرى الدقة، خشية ارتكاب خطأ واحد يوقعه تحت طائلة المساءلة، كونه يعادى الطرف القوى جدا القادر على الإيذاء، فيما عامل الشاى، وسائق الميكروباص لا يملكون له ضرا ولا نفعا، يتطلب يكلف الدفاع عنهما أثمانا باهظة، يدفعها الصحفى فقط كى يشعر بالرضى عن النفس، واحترام الذات، وراحة الضمير، وهى مشاعر سامية يقدرها فقط الأحرار والكبار والمؤمنون ولا يدركها العبيد والفاسدون والظالمون.
والثانية: أن الدولة على هذا النحو، إنما تحرق الجسور التى تمر عليها إلى الناس، فرجال الصحافة هم الذين دافعوا عن صورة الشرطة أمام الشعب، ووقفوا خلفها فى المعركة ضد الإرهاب، بقدر فائق من الحماسة يكاد يبلغ درجة الإيمان، فما إن هدأت المعركة ولو نسبيا (ننعى هنا ببالغ الألم وعميق الأسف شهداء مذبحة حلوان، فعليهم رحمة الله ولذويهم كل الصبر والسلوان)، حتى انقلبت عليهم لأنهم رفضوا السكوت عن تجاوزاتها ضد المواطنين البسطاء الذين أمعن رجال الشرطة، خصوصا الأمناء، فى انتهاك كرامتهم واغتيال أرواحهم، فإذا بالشرطة تنتقم منهم بتشويه صورتهم لدى هؤلاء البسطاء بالذات، من دون أن تدرى حجم خسارتها هى نفسها، لأنه إذا استقر فى أعماق عموم الناس أن الصحفيين كاذبون ومأجورون، ولم يعد أحد يصدقهم، فمن سيحمل رسائل الدولة الإيجابية إلى المجتمع، ورسائل الشرطة ضد الإرهاب إذا ما ارتفعت موجاته، أو ضد التطرف إذا ما ازدادت تحدياته.
وثالثها: أن الصحافة هى التى دافعت بكل قوتها المعرفية والأخلاقية عن حدث 30 يونيو باعتباره ثورة ضد الإستبداد الدينى تفوق فى عمقها 25 يناير، ورسمت للرئيس السيسى صورة بطل أسرف كثيرون من كتابها فى مضاهاته بالزعيم الخالد جمال عبد الناصر فى مواجهته الكبرى مع الإخوان، ما كان يفرض على الشرطة تقدير دور المهنة فى صوغ الحالة المصرية الراهنة، بدلا من السعى إلى تشويهها ووصم أصحابها بالكذب والخداع، مثلما تم سلفا مع الأطباء، ومن قبلهم المحامون، أى جل فئات الطبقة الوسطى المدينية، على نحو يحرم حدث 30 يونيو تدريجيا من الكتلة المجتمعية التى احتضنته ودافعت عنه، ولاتزال تأمل فى إصلاح المسار الذى دشنه، ولذا فإن ما تتصوره الشرطة انتصارا على الصحافة، ليس إلا وهما زائفا، لأن المعركة ضد الحرية مباراة عبثية، المكسب فيها مؤقت وظاهرى، والخسارة فيها مؤكدة وعميقة، وشاملة للجميع..