الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
التدخين ضار جداً بالصحة
يتحول الوطن إلى شاشة عرض، ويتحول المواطن إلى مشاهد وحيد، على عتبة العرض يجلس مشدوهاً إلى أحداث دراما الواقع التى يصارع فيها -كل مواطن- أملاً لا ينقطع فى وطن يَرْعَى ورَاعٍ يُرَاعِى، ويبدأ العرض

مشهد 1: يسحب المُنَّظِر السياسى دُخان سيجارته -المستوردة تماماً- ليستقر فى أعماق رئتيه قبل أن يخرج مُحملاً بكلمات واثقة قاطعة (الأوطان فى محيطنا الإقليمى، صارت تسير بخطوات واثقة إلى الخلف، وأصبحنا نتحرك فى نفس الدائرة المغلقة، صحيح سقطت أنظمة وأسماء، ولكن بقيت نفس منظومات الإدارة القديمة، والعقول المتحجرة السقيمة، والشعوب المتخلفة، وصار حتميا على كل صاحب رؤية ثاقبة أن يعمل على اقتلاع المنظومات عبر إسقاط حقيقى للأنظمة).

مشهد 1 أيضاً: يرمى رجل الأعمال الشهير رأسه على خلفية كرسى مكتبه الوثير، بينما ينفث دخان سيجاره الكوبى، فى الامتداد الذى يفصل رأسه عن السقف شاهق الارتفاع، يعتدل فجأة ويقف متكئاً على أصابعه المنصوبة فوق مكتبه المصنوع خصيصاً فى إيطاليا، فتنتفض واقفة أجساد عبيد المأمور الذين يعملون معه كمدراء، يقول لهم (الأزمة الحقيقية التى تعيشها المنطقة وبلدنا تحديداً، إن مناخ الاستثمار غير مشجع على الإطلاق، والأنظمة التى ظهرت بعد ما سمى بالربيع العربى، كلها وأكرر كلها تعاملت مع رجال الأعمال الوطنيين من أمثالى، باعتبارهم يجلسون على تل من كنوز على بابا، ولم يراعوا أن الثلاثين عاماً التى نمت فيها ثرواتنا رغم قصر مدتها كانت سنوات من الكد والعرق وفتح القنوات المغلقة!. واختراق عقول المسئولين بشتى الطرق لتعديل التشريعات والقوانين التى تحكم مناخ الاستثمار؟، وما أن تم ذلك حتى جاء الربيع العربى، وكان المفروض أن تؤدى الثورات لو كانت حقيقية إلى اعتبار المستثمر مواطن سوبر لوكس، لكن ماحدث كان العكس تماماً، وكل نظام يصل للحكم يصبح المستثمر الوطنى أول أهدافه، لهذا أعتقد أن الحل هو نقل أسواق الاستثمار إلى دول أكثر أماناً واستقراراً إلى أن يسقط فعلاً النظام وساعتها سيكون مجال الاستثمار أوسع).

مشهد 1 كمان: يستقر بدن الشيشة الزجاجى المزخرف بأرابيسك الفضة، داخل بدن الطاولة الكبيرة بحديقة القصر المنيع على الشاطىء بـ مارينا، يجلس الأكاديمى القيادى السابق بالحزب الوطني، وحوله عدد من رفقاء الدرب والمريدين، يُحرك الأكاديمى اللَيّ الطبى للشيشة ليعدل وضعه بين أصابعه، ويسحب نفساً هادئاً عميقاً، ويدفع كلمات موزونة رصينة (معروف للجميع تاريخى العلمى، وخبراتى القانونية الواسعة، ويعلم الله أنى طيلة حياتى لم تشغلنى السياسية عن العلم، ولم أتعاطى معها إلا بقدر ما يخدم علمى ولا يخونه)، ويؤمن الجمع على الحديث بينما تفلت ابتسامة خبيثة من بعضهم، وبينما يغير الخادم الجمر الخامل بآخر متقد، يشتعل حماس الأكاديمى (وعزة جلال الله هذا البلد لو فيه خير فعلاً ودعتنى لأكمل مسيرتى فى تعديل تشريعات السوق والعمل، فمن المستحيل أن أتأخر، طبعاً لأنى عملت وبكل إخلاص لثورة تشريعات شاملة بدأتها مبكراً وخطوات نحو تطبيقها عملياً قبل 25 سنة، لكن للأسف جاءت الأحداث التى تعرفون فى 25 خساير، وكل شىء توقف ولكنى لم أيأس، ولكنى نشطت عندما شعرت أننى يجب أن أكمل المسيرة لحين إسقاط المنظومة القديمة وبناء الجديدة التى طالما عملت مخلصاً فى سبيلها)!.

مشهد 1تانى: يطلب المسئول الكبير من أحد مرءوسيه سيجارة، يرد وهو يخرج علبته المصرية الصنع فيما آخر يمد يده بالولاعة (لكن الدكتور معاليك)، يشعل المسئول الكبير السيجارة بسَحْبٍ متوتر وينفث دخانه ناظراً للمصطفين أمامه انتباه، (انظروا للدول من حولكم، أين العراق وليبيا؟ وفى أى اتجاه تسير سوريا؟ الناس فى هذا البلد لابد وأن تعرف نعمة الحكومة والنظام. وبالتأكيد كل من يؤمن بهذه النعمة سيوقن تماماً أن كل من يشكك فى المنظومة أوالنظام عميل أو إخوانى، ولهذا يجب أن نطوى صفحات الماضى كلها عن طريق إسقاط النظام المرتعش، ونبدأ صفحة جديدة بفكر جديد، عنوانها القافلة تسير والكلاب تنبح. والقافلة هى الحكومة وخصومها كل مُعَارِض للرأى أو مُطَالِب ولو حتى بتطوير، فنحن لا نريد تشتيتا عن المسير نحو النظام الجديد)! مشهد 1ختامى: فى المقدمة وجوه قاسية اللحى أو السِحَنْ، يختبئون فى ظلام دامس فيهم يعشش وفيه يتعايشون، يخاطبون عبر وسائل الاتصال الحديث أقراناً لهم فى لندن وتركيا وقطر وأقطار أخرى كثيرة، ويجمعون على أن غياب مشروع البناء الموحد يحتم اقتراب خروجهم للنور، يدعون بإخلاص (اللهم فرق جمع مصر وأهلها). وفى وسط المشهد منصات إعلام عالمى تترصد كل ما يكثف ضبابية المشهد وغياب رؤية المشاهد، ويجمعون (يكفى أن تترك الكاميرا دائرة لتنقل كل أداءات التفرق والانتهازية). وفى عمق المشهد يجلس العم سام مرتدياً قبعته ويعلن عن (منح أمريكية جديدة للمنطقة تلبى كل احتياجات المدخنين). ينتهى العرض بينما لم ينته المشاهد المواطن من مصارعة الفايش بـ «الشاى أبو حليب»، فيضعهما من يديه ليصفق للمشاهِد التى رآها مؤكداً أن الفيلم يريد أن يوصل رسالة مفادها (التدخين ضار جداً بالصحة). !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف