التحرير
عمرو حسنى
سرقة شهادات ميلاد الآثار
منذ عامين تقريبًا نشرت فى هذه الزاوية صرخة لصديقى المهندس الأثرى محمود الطوخى، المتخصص فى إنقاذ الآثار من الانهيارات الوشيكة، الذى كان يقوم بدور مطلوب وشديد الأهمية فى تنفيذ تلك المهمات العاجلة بنجاح وبأقل تكلفة ممكنة، ولكن ذلك الدور لم يكن على هوى شبكات المصالح التى تعمل بلا هوادة لطرد كل شريف يرفض الاندماج فى لعبة المقاولات والمستخلصات التى تعج بها دهاليز "سبوبة" إنقاذ الآثار وترميمها، حتى انتهى به الأمر إلى عزلة اختيارية مؤلمة. كانت صرخة الرجل وقتها تتعلق بضرورة العمل على إنقاذ جبانة البجوات الطينية القبطية، وكنائسها المهددة بالانهيار فى واحة الخارجة بالوادى الجديد. باعتبارها أقدم الآثار المسيحية فى العالم بأسره.

يومها صرحت وزارة الآثار عن رصد مبلغ مالى لبدء عملية الإنقاذ، وللأسف لم يحدث أى شىء للآن. تمامًا كما توقع المهندس محمود الطوخى الذى شرح لى السبب بقوله: لن يقوم أحد بإنقاذ البجوات لأن ترميم الآثار الطينية لا يتكلف شيئًا، لاعتماده على الخبرة فقط. حيث لا تتطلب تلك العملية توريدًا للمواد الخام الغالية مثل الأحجار والرخام وغيرها من "الطلبيات" الدسمة التى تفتح شهية المقاولين والمسؤولين للعمل معًا، لأنها تفتح الباب لهم على مصراعيه "لسبوبة" العمولات التى تسبق استخراج المستخلصات! وقد تحقق ما قاله بالحرف.



اليوم يصرخ الرجل محذرًا من كارثة أخرى يطلق عليها سرقة شهادات ميلاد الآثار الإسلامية! يقول المهندس الطوخى متألمًا: إن سرقة شبابيك ومقابض ومطارق أبواب المساجد الأثرية، فضلاً عن المشكاوات وكل القطع الصغيرة التى يسهل فكها وحملها صارت أمرًا معتادًا منذ حدوث الانفلات الأمنى بعد ثورة يناير. لكنه يحذر من ظاهرة غريبة تتكرر بانتظام منذ فترة ليست بالقصيرة، وتتمثل فى سرقة اللوحات التأسيسية للآثار الإسلامية.

هذه اللوحات يكتب عليها بالخط الديوانى، باعتبارها منشورات رسمية صدرت من دواوين الحكم، عبارات تسجل اسم الحاكم وتاريخ إنشاء الأثر، فيكتب عليها مثلاً: فى عهد الملك الظاهر بيبرس تم بناء كذا، أو قام السلطان المعظم قنصوه الغورى بافتتاح كذا.. إلخ. تكمن أهمية تلك اللوحات فى كونها وثائق أثرية ذات قيمة فنية فى حد ذاتها، تضاف إلى قيمتها التاريخية كلوحات تأسيسية للأبنية الأثرية.

هذه اللوحات لا يسرقها سوى لص محترف يفهم قيمتها، ولا ينتزعها من مكانها "هباش" يقتنص مقبضًا نحاسيًّا يسهل تفكيكه فى دقائق، بل يحتاج الأمر إلى دراية بالتفكيك، وتسهيل لتلك المهمة الصعبة، وقدرة على تهريبها إلى خارج البلاد. وكلها أمور لا تتوفر إلا لمافيا تقوم بتلك السرقات آمنة من العقاب.

لصوص المال العام يتركون الآثار على حالها معرضة للانهيار إذا لم يفتح لهم ترميمها بابًا للرزق الحرام، ويستبعدون الشرفاء من دوائر عملهم المغلقة، لأن وجودهم يفضح سرقاتهم، وسوء إدارتهم، ونقص مهاراتهم.

لصق ذقن قناع توت عنخ آمون بالإيبوكسى لا يختلف عن "تمحير" جدران المعابد بالأسمنت، وعودة القطع الأثرية واللوحات الفنية من المعارض الخارجية محاطة بالشكوك حول استبدال قطع مقلدة بها.. وكلها أمور لم تعد تثير اهتمام أحد.



هذه صرخة فى وادٍ أعرف أنها لن تنقذ الضحية التى ينهشها الذئب، لكنها سترفع فمه عن جسدها لحظة واحدة ليتشمم الهواء، ويعود بعدها مطمئنًا إلى استكمال وليمته بنهم. أعرف أنها لحظة لن يستغلها أحد، ولكنها صرخة لا أملك كتمانها.

اللوحات التأسيسية هى شهادات ميلاد الآثار الإسلامية.. إنهم يسرقون شهادات ميلاد الوطن.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف