فيلم "الراعي والنساء" الذى قام بإخراجه علي بدرخان عام 1991، والمأخوذ عن المسرحية الإيطالية "جريمة فى جزيرة الماعز" للكاتب الإيطالي "أوجو بتي" (1892- 1953)، يعتبر بالنسبة لي من أهم أفلامه وأكثرها نضجا وإحكاما فى الشكل وطريقة السرد. هناك صراع واضح بين عدة ثنائيات: بين عالم الذكورة وعالم الأنوثة، بين الرغبة والعقل، بين عالم الرعي وعالم الزراعة، أو الراعى والفلاح، بين الفرد والجماعة.
العالم الأنثوي فى الفيلم يتمثل فى ثلاث سيدات يعشن فى مزرعة تقع فى مكان ناء، يطل على بحيرة واسعة، بعيد عن أى مدينة أو سلطة اجتماعية: "وفاء الزوجة" الأرملة، وابنتها "سلمى"، وعزة أخت الزوج المتوفى، وهى أيضا أرملة. عالم بلا رجال، أو انقطع دخول الرجل فيه. بقاء السيدات الثلاث وحيدات فى هذا المكان النائي، يرجع بسبب كونه مشروع حلم الزوج، بأن يصنع من هذه المزرعة "جنة" قبل دخوله السجن ووفاته هناك. تحافظ السيدات الثلاث، باختلاف رغباتهن، على ميراثهن من حلم الرجل (الزوح - الأب - الأخ) بهذه "الجنة". وربما هذه الحلم، أو الأثر الباقي من هذا الرجل، هو الذى جعلهن صامدات، بدون أن يروين تعطشهن للجنس أو للحياة بشكل عام. كن يعشن على الحلم الذى أخذ يتآكل رويدا رويدا مع مرور الوقت وغياب "صاحب الحلم".
الجنة المؤنثة
على الطرف الآخر يدخل "رجل غريب" "حسن" على هذه "الجنة" الأنثوية، محملا بكل أسرارها حتى قبل أن يراها، بسبب زمالته لزوج السيدة الأرملة فى السجن قل وفاته. بالتأكيد هذا "الرجل الغريب" كان يحمل جريمة دعته لدخول السجن، والتكفير عنها، فهو مذنب بشكل ما.
يغامر، هذا "الرجل الغريب"، بسبب قلة حيلته وعدم امتلاكه إلا "لرجولته" والأسرار التى باح له بها الزوج عن "الجنة" وعن زوجته وابنته وأخته، يغامر بدخول هذه "الجنة المؤنثة" ومحاولته الاستيلاء عليها وعلى نسائها وفرض عالمه الذكورى على هذا العالم الأنثوي. بمعنى آخر كان يريد أن يحل مكان الرجل الآخر فى هذه الجنة، والعائش فى حلم السيدات. يسعى لإغرائهن مستغلا الغياب الطويل للرجل من حياتهن، سواء الزوجة المحرومة من زوجها، أو الابنة المتعطشة للأب الغائب، أو الأخت التى كان أخوها يشكل كل حياتها.
فى ثقافتنا الإسلامية، لم تكن "الجنة" ساكنة أو خالية أبدا، بل هناك تجاذبات تحركها سواء فى نشأتها أو فى فصلها الختامى. إما "جنة" بها جدل قائم بين الشيطان من ناحية والله من الناحية الأخرى وبينهما الإنسان. والذى تلاه عصيان وطرد، ثم وعد بعودة مستقبلية بعد القيامة لتكون النهاية السعيدة لرحلة الحياة. ما بين البداية والنهاية هناك وجود لهذه الجنة بكل أنهارها وفواكهها وجمالها، ونسائها، وحيواناتها وزواحفها، لا ينقصها إلا عودة الإنسان أو "الرجل" فى هذه الحالة، إليها مرة أخرى، بعد طرده منها، وتكفيره عن ذنبه.
عدة افتراضات للرجل الدخيل على الجنة
ربما هذا الرجل الدخيل يرمز أيضا للشيطان الذى جاء حاملا سر هذا الضعف الإنساني ويوسوس لهن مستغلا الأسرار التى أفشى له بها زميله فى السجن، ليسخرهن لصالحه.
أى فكرة مثالية تحمل صراعا بداخلها، لا يستقر إلا باكتمال عناصره أو تصفية أحد مسبباته. فبدخول الرجل على هذه الجنة الأنثوية تكتمل عناصر الصراع أو الجدل، لتبدأ الجنة رحلة لفظها لآدم وحواء منها من جديد.
يمكن أيضا أن يكون هذا "الدخيل" على هذه "الجنة" الأرضية، هو "الرجل" بالمعنى الذكوري للكلمة، وليس فى رمزيته، والذى بمجرد دخوله ستختل المعادلة الأنثوية الساكنة وتستيقظ الرغبات المدفونة للسيدات الثلاث. هذه الرغبات المكبوتة التى تكونت فى غياب الرجل، هى التى جعلت هناك تساميًا للروح على رغبات الجسد، ومنحهن الفرصة للعمل المستمر والبناء. وهو المثال الذى يجسد رمزيا ما حدث فى الثقافة المسيحية الغربية، التى حجمت الرغبة فى سبيل تسامى الروح.
ربما ضريبة استمرار هذه "الجنة"، بالنسبة للسيدات الثلاث، هذا الحرمان من الرغبة أو مكافحتها، لأن الرغبة هى علامة على استيقاظ الجسد وليس الروح، واللذين يعيشان فى خصام فى الفكر المسيحي الغربى. استمتعت بقراءة هذه الملاحظة اللامعة والجوهرية فى كتاب الكاتبة المغربية، التى توفيت منذ شهور، فاطمة المرنيسى "ما راء الحجاب- الجنس كهندسة اجتماعية"، (1) فى معرض استشهادها برأى عالم النفس "فرويد" فى تفسير ظاهرة الجنس فى الحضارة الأوروبية. تقول الملاحظة بأن "الحضارة" تقوم أصلا على توجيه الرغبة الجنسية فى غير مكانها. لذا الحضارة الأوروبية المسيحية فى جوهرها قامت على توجيه طاقة الجنس ليس لإشباع الرغبة الجنسية، بل لإشباع رغبة العقل فى التفوق والسيطرة والسير فى مسارات الروح الخالصة.
"تختلف النظرية الإسلامية عن التسامى اختلافا جذريا عما نجده فى التقليد الغربي المسيحي كما تصوره النظرية الفرويدية فى التحليل النفسى. فالحضارة لدى فرويد حرب ضد النفس، وهى طاقة جنسية "حُرِّفت عن هدفها الجنسي نحو أهداف اجتماعية سامية لم يعد لها طابع جنسي. والحضارة فى النظرية الإسلامية نتيجة لإشباع الطاقة الجنسية، فليس العمل نتيجة للحرمان الجنسي، ولكنه نتيجة لممارسة جنسية مشبعة ومنظمة". (2)
المرأة بانية الحضارة
وربما هذه "الجنة"، أو هذا البيت الريفي النائي، فى تصور مؤلف المسرحية الأصلى الذى كان مشغولا بقضايا الوجود والخير والشر؛ هى رمز هذه الحضارة الأوروبية وشكل تعاملها مع الغريزة، مما جعلها على وشك الانهيار أو التحلل، بسبب دخول عناصر الاستغلال عليها والتى ستسخر طاقة الجنس المكبوتة/ الغريزة فقط لإشباع الجسد وليس للبناء وتعمير المزرعة/ البيت/ الجنة.
الجديد فى هذه النظرة أن طاقة الجنس المكبوتة الموجهة للبناء، كما يحللها فرويد، اقتصرت هنا على المرأة وليس الرجل، فهن ربما فى رأي مؤلف المسرحية، ومخرج الفيلم، بانيات الحضارة.
هذا المكان النائي (3) الذى تدور فيه أحداث الفيلم، يشبه الأماكن التى بدأ فيها التشريع للحياة وسن القوانين ومعقل الصراعات الأساسية للإنسان. فالمكان محاصر جغرافيا بعدة مجازات، بين الرعي والصيد والزراعة، وهى العناصر الأولى للحياة، فى شكلها الخام، ويقف وراءها أدوار كالمزارع والفلاح والراعي باختلاف ثقافة كل منهم. فـ"الراعي" لا يملك قدرة المزارع على البناء، لأنه لا ينتمى لأى مكان أو أرض، ولأن وجوده عابر للأماكن والعواطف، كما سيظهر فى الفيلم.
ينتهى الفيلم بالقتل الخطأ، لهذا الدخيل، من أصغر السيدات وهى الابنة. كأن حلم الحضارة المتجسد فى هذه الجنة، تبدد بدخول الرجل أو الشيطان إليها، كما يرى مخرج الفيلم، ليفسد هذه المثالية أو التسامى المفتعل للسيدات، والذى يعبر عن كبت للرغبة وليس تجاوزًا لها. كأن الخروج من هذه الجنة نجاة للحياة، فرحلة الخروج تبدأ من هذه التصفية لفكرة الجنس أو إعادة موضعة الجنس ضمن الحضارة لينضم الجسد مع الروح بدون انفصام.
خلال الفيلم يظهر هذا البعد النسوى التنويري، ونقد للمنطق الذكوري فى السيطرة. على سبيل المثال نقد رغبة الرجل المشاعية التى يمكن أن توجه لأى امرأة وليست لامرأة واحدة بعينها، بعكس المرأة، التى توجه رغبتها لرجل واحد بعينه. هنا اتهام مباشر "للرجل الكوني" الذى خُلق وبه عيب جوهري فى علاقته مع "الآخر" تقربه من السلوك الحيوانى. (4)
فى التفسير الظاهري للفيلم وأحداثه، وهو أحد مستويات التفسير، يظهر أن "الرجل" هو الذى يسوق النساء كراع لهن، وأنه يضع بيده مقاليد السلطة. ولكن داخل هذا التفسير الذكوري، تظهر ناحية أخرى فى الفيلم تشير إلى أن رغبة هذا الرجل لم تستيقظ إلا فى وجودهن، وفى علاقته بهن بأشكالها الثلاثة: كزوجة وكابنة وكأخت. كأن هذا الرجل لن يتحقق وجوده إلا بعلاقات متعددة (هى نفس الإدانة التى توجهها وفاء، الزوجة الأرملة لـ"حسن" متعجبة من تعدد علاقات الرجل) بعكس الأنثى التى تعبر عن أمومة مكتملة ربما تتجاوز رغباتها. هنا فضح لهذه الذكورة التى تبحث عن التعدد فى العلاقات العاطفية كى تتحقق، كأنها وجود ناقص وبه عيب، لذا الاستحواذ والسيطرة، كإحدى أدوات بناء الحضارات الذكورية الحديثة، يلعبان دورا فى تغطية هذا العيب الجوهرى الذى خلق به الرجل!! بمعنى آخر إن الحضارة الحديثة مبنية على ضعف إنسانى مصدره الرجل، أو من وضع الرجل فى هذا المأزق!
الصراع فى الفيلم يحسم لصالح الأنثى بشكلٍ ما، لأنها لا تبادر بالخروج من "الجنة" بل تنتظر حضور "الرجل". هى التى تعرف أسرار الأرض، فبالتأكيد الرجل سيخسر المعركة، لأنه لا يعرف هذه الأسرار، كونه عابرا يجرى وراء القطيع أينما توجه. ورغم هذا بعد موت الرجل لم يعد للجنة معنى بالنسبة لهن، لأنها كانت جزءا من حلم هذا الرجل العابر.
أيضا يظهر ملمح آخر لهذا البعد النسوي فى الفيلم، فالسيدات هن اللائي يعملن بالزراعة والصيد وغيرها من الأعمال ويتكفلن بأنفسهن، بينما الرجل لا يعمل، بل يستثمر عرقهن ورغبتهن في جسده ليسخرهن، وهنا يظهر بوضوح نوع من الأفكار السياسية والإنسانية الرمزية التى رافقت رحلة على بدرخان فى السينما، رفضه لاستغلال رأس المال المعنوي أو المادى للاستيلاء على الآخرين واستعبادهم.
ربما أيضا هناك طرح أو ظلال لفكرة "ذكورية"، تتعارض مع الأفكار النسوية السابقة، تأتى من بعيد: هذا التعدد الذى يسِمُ الرجل فى علاقاته، به نوع من "الموضوعية"، أو تجاوز للذاتية والفردانية، وهو الشىء الذى بنيت عليه الحضارة، بينما "ذاتية المرأة" وتعلقها بشخص واحد، بالرغم من تساميه وإخلاصه فإنه لا يبني حضارة وبه نوع من الإدانة الخفية!! ربما يكون هذا أحد التفسيرات الضعيفة للفكرة ولكنه حاضر أيضا بجانب التفسيرات الأخرى.
الخروج من الجنة
الهدم يأتى لهذه الحضارة/ الجنة/ البيت الرمزى الصغير، التى اعتمدت سواء على السيطرة أو الاستغلال ربما لوجود تمييز أصيل ورغبة فى الاحتكار والاستغلال للأرض بكل مجازاتها المادية والمعنوية. رغبة الاستيلاء هى التى خرَّبت الدنيا، وتحول الرغبة الجنسية لأداة للتسخير، عندما بدأ الجنس يأخذ شكل الاستعباد أو الاستيلاء بدأ التخريب وتهدمت الجنة وخرج منها آدم وحواء. ربما بعدها يسعيان فى الأرض بحلم القتل الذى حدث فى الجنة/ مثلهم الأعلى.
فى ثقافتنا العربية ليست هناك رواية ذاتية للرغبة غير الرواية الأوروبية لها. هل الرغبة أخذت مكانها لتعلن عن وجهها القاتل والمستلِب؟ أم لها مكان آخر غير الملكية والاكتناز والسيطرة؟ هل لها مكان تبادل عادل؟ ما مصير الكبت الجنسى، هل أدى لتسامٍ عربى؟ وما مكان هذا التسامى العربى الحديث؟ أم أن "الإشباع الجنسى" كما تمليه الثقافة الإسلامية قضى على الصراع أصلا وتناسى هذه الرغبة؟
-----------------------------
(1) "ما وراء الحجاب - الجنس كهندسة اجتماعية" فاطمة المرنيسى- ترجمة عن الفرنسية فاطمة الزهراء أزوريل- المركز الثقافى العربى- الطبعة الرابعة 2005- المغرب. أنا مدين لكتاب الدكتورة "فاطمة المرنيسى" بأفكار أساسية مستبطنة فى هذا المقال.
(2) الكتاب السابق ص 34.
(3) تجري أغلب وقائع الفيلم فى الظلام، أو فى العتمة، حيث يصحو اللاوعى المكبوت/ الغريزة/ الرغبة، فى غياب العقل النهارى المراقِب، فالكهرباء لم تنر بعد هذا المكان.
(4) يلاحظ الحضور الكثيف والرمزى للحيوانات، والزواحف كالسلحفاة، والأسماك والعقارب والخراف والماعز والحمار.