محمد حماد
تدليس إبليس في أزمة الصحفيين والبوليس
البعض ممن حُشدوا حشد الإبل في اجتماع يراد له أن يقسم ظهر النقابة تملص من مواقفه السابقة، وكان كثيرٌ منهم قد اتخذوا الموقف الطبيعي، ولا أقول الموقف الصحيح، في بداية الأزمة بين الصحفيين وبين الداخلية، ذلك الموقف الذي تفجر على إثر اقتحام قوات من الشرطة مبنى النقابة ليقبضوا على اثنين من الصحفيين مطلوبين للتحقيق أمام النيابة العامة.
هذا الاقتحام الذي رفضته جموع الصحفيين منذ اللحظة الأولى، لم يشذ عن ذلك حتى هؤلاء الذين نزل إليهم “الوحي” فيما بعد فعادوا عن مواقفهم الأولى التي كانوا قد اندفعوا إليها كلٌ له حساباته و كلٌ بدوافعه وكلٌ له من يدفعه.
فجأة وبدون سابق إنذار أو تحضير، تملصوا هؤلاء من مواقفهم الأولى التي لم يكن قد فات عليها إلا ساعات الليل، عندما علموا أن الأمر لا يتعلق بوزير ولا بغفير، إنما يتعلق بالرجل الكبير، فراحوا يكيلون لأصحاب الموقف نفسه الذي كانوا قد اتخذوه كلَ صنوف التجريح واتهموهم بكل تهمة تحط من قدرهم بين ذويهم وبني وطنهم، وشاركوا بل وقادوا الحملة الشرسة والمتجنية على النقابة والنقيب وأعضاء مجلس النقابة ومعهم تلك الآلاف التي احتشدت في جمعية عمومية لا مثيل لها في تاريخ النقابة.
واحد من هؤلاء المتملصين من مواقفهم كان قد كتب مقالة سابقة، وافتتاحية لاحقة، تراجع عن كل كلمة وردت فيهما، بسهولة ويسر واستعباط كأنه لم يكتب حرفاً في المقال، أو كأنه كتب الافتتاحية كما أمليت عليه، اسمه محمد علام ومنصبه رئيس تحرير “الأهرام”، كتب علام ـ أولاً ـ مقالاً من روعته بادرت إلى تشييره على صفحتي على الفيسبوك وهي ربما المرة الوحيدة التي أفعل فيها ذلك مع ما يكتب أو مع كل من يكتبون.
كتب علام مقالته الرائعة قبل وقوع الأزمة بين الصحفيين والداخلية بشهر كامل، كان المقال بعنوان :” الدولة ولحظة الحقيقة فى قضية ريجينى”، واعتبر علام المقال كلمة حق، ورأى أنها يجب أن تقال فى وجه الجميع فى مصر، ولم يكن من بين المقصود بهؤلاء نقابة الصحفيين ولا يحيى قلاش، الكلمة الواجبة كانت تخص العلاقات المصرية ـ الإيطالية، التي تواجه “نذر مشكلة كبيرة فى العلاقات بين البلدين تلوح فى الأفق”، ورأى علام أن هذه المشكلة الكبيرة “لن تجدى معها معاملات سقيمة أو مبالغات مفرطة من جانب بعض من لا يعى خطورة حوادث بعينها”.
طبعا البعض المقصود بالمعاملات السقيمة والمبالغات المفرطة هو وزارة الداخلية وليس نقابة الصحفيين أكيد.
ثم يتحدث علام عن أن :”الروايات الساذجة عن “مقتل ريجينى” أساءت إلى مصر داخليا وخارجيا، وقدمت للبعض مبررات للحكم على ما يجرى فى البلاد بأن شيئاً لم يتغير، وكأننا فى مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير”، وواضح هنا أن علام يلقح بالكلام على وزارة الداخلية مرة أخرى، بل يكاد يصرح بالكلام عنها فيقول: “وينسى المدافعون، عن مواقف متهافتة غير مقنعة فى فرط حماسهم أن قضية مقتل خالد سعيد رغم ملابساتها لم تمر مثلما ظن البعض فى حينه”.
ومن المؤكد أنه لا نقيب الصحفيين، ولا مجلس النقابة، ولا أي صحفي، كانت له أي علاقة من قريب ولا من بعيد بقضية مقتل خالد سعيد، ما يعني أن علام يذكر “الداخلية” ببعض مساوئها في العصر القديم، عصر ما قبل ثورة يناير حسب ما يقول، ولأن “الداخلية” وليست نقابة الصحفيين هي التي كانت قد أشارت إلى أن الإعلام هو الذي ضخم قضية “ريجيني” فإن علام يبادر إلى القول بأن : “الحديث عن دور وسائل الإعلام فى تضخيم القضية أو نشر معلومات غير دقيقة ليست «الشماعة» المناسبة لإقناع الجانب الإيطالى بما هو مطروح عليه”.
وينهي علام مقالته بالحديث عن دور ايطاليا في مساندة مصر بعد 30 يونيو ويعود ليؤكد :”إن عدم فهم بعض المسئولين قيمة “الحقيقة”، ناهيك عن أولوية حقوق الإنسان فى المجتمعات الأوروبية، يضع الدولة المصرية فى حرج وفى مأزق بالغ الخطورة”، ثم يحذر علام المسئولين في وزارة الداخلية من:”أن الترويج لروايات جديدة مثل اتهام “ريجينى” بالضلوع فى أنشطة تجسس دون تقديم أدلة قاطعة سيزيد الطين بلة”، ثم يقترب علام أكثر فأكثر من المقصودين بكلامه فيقول:” هناك من يريد التغطية على أخطاء فردية بالتعامل «البارد» مع قضايا لا تحتمل الخفة أو التجاهل، وربما يكون مردود ما يجرى هو أننا بالفعل نعانى قلة الكفاءات وضعف المهنية”. ثم يختم مقاله الجريء ضد “الداخلية” بالقول: الموقف «جد» لا يحتمل الخفة.. والدولة مطالبة بوقفة حقيقية حتى نستعيد سمعة مهددة”.
طبعاً من حق علام أن يرد علينا فيقول أنه لم يصرح ولا مرة واحدة باسم المقصود في مقاله سالف الذكر، رغم أن كلماته تكاد تنطق بما يريد أن يقوله، ومع ذلك دعونا نقرأ ما كتبته “الأهرام” في افتتاحيتها المدوية الغير مسبوقة والتي خرجت على الرأي العام تطالب بوضوح ب “إقالة وزير الداخلية” على خلفية اقتحام ضباط الشرطة لمقر النقابة والقبض على صحفيين من داخلها، وذلك دون إخطار “نقابة الصحفيين” وجاء “رأى الأهرام” في عددها الصادر الثلاثاء، 3 مايو الجاري أي بعد يومين من الواقعة، وتحت عنوان “اقتحام بيت الصحفيين”، حاملاً رسالة قوية حول رفض ما فعلته وزارة “الداخلية”، وكيف أن بعض قادتها يصورون للقيادة السياسية أنهم بذلك يحمون أمن الدولة.
فقال لا فض فوه: “فى الوقت الذى أزاحت فيه وزارة الداخلية الحواجز الأسمنتية بمحيط مقرها القديم فى ميدان لاظوغلى فى خطوة من شأنها تخفيف التكدس المرورى فى هذه المنطقة، وما إن كاد سكانها يشعرون بحرية الحركة، حتى كانت أجهزة الوزارة ترتكب عملا غير مقبول ضد الحرية، فلم يع قادة الوزارة ومن يحركهم أن تصرفهم المشين باقتحام نقابة الصحفيين عمل غير مسبوق وغير مقبول على مستوى زملاء المهنة وبقية النقابات وكل المجتمع”.
ونحن نلتمس لعلام العذر في اندفاعه باتجاه إلقاء اللوم على “الداخلية” بشكل واضح لا لبس فيه، بخصوص واقعة اقتحام نقابة الصحفيين، خاصة وأنه قال هو ومن معه في اجتماع “الأهرام” الفاشل والمذري به وبأصحابه، بأنهم وقعوا فريسة لمعلومات خاطئة تحصلوا عليها من رواية واحدة هي رواية النقيب والنقابة، ورغم أن ألف باء الصحافة التي يتعلمها التلميذ في أول أيام ال “كى جي وان” صحافة أنه يجب عليه البحث عن الحقيقة من كل الأطراف التي لها علاقة بالواقعة التي يحققها، ليتحقق بنفسه من استيفاء حق القارئ في معرفة كافة الروايات، إلا أننا سنتغاضى عن هذا الدرس المهني في ظل تواضع مستوى “الأهرام” المهني تحت القيادة العلامية، وسنقوم بحذف كل ما في “الافتتاحية” يخص الواقعة التي التبست تفاصيلها على السيد رئيس تحرير جريدة “الأهرام” الغراء، ولن نذكر أي عبارة أو إشارة أو لفظ له علاقة بواقعة اقتحام النقابة في هذه الافتتاحية الخطيرة والغير مسبوقة كما ذكرنا.
قال كاتب الافتتاحية :”لقد ارتكبت وزارة الداخلية أخطاء عدة خلال الفترة الماضية”، ثم قال :” لن تنجح وزارة الداخلية فى مرادها الخبيث بتكميم الأفواه وكبت حريات الرأى والتعبير التى نص عليها الدستور الذى لم يقرأه بعد قيادات الأمن الذين يصدرون للقيادة السياسية تصوراً مخادعاً بأنهم يحافظون على كيان الدولة وأمنها، وإذا كانوا اليوم يحتلون مناصب قيادية، فما يدريهم بمكانهم غدا”.
والعبارة واضحة والاتهامات فيها كثيرة، ولكن أكثر ما لفت نظري فيها اتهام بعض قيادات الداخلية بأنهم يصدرون للرئيس تصوراً مخادعاً بأنهم يحافظون على كيان الدولة وأمنها، وهي تهمة لو صحت تستوجب ما هو أكثر من إقالة هذه القيادات، وربما تقدمهم للمحاكمة الجنائية على هذه التهمة الشنيعة.
وفي إشارة واضحة إلى هبة الشعب ضد ممارسات الشرطة في 25 يناير سنة 2011 يتابع كاتب الافتتاحية فيقول:” لقد علمتنا التجارب التى لم تدركها أجهزة الأمن للأسف، أن الشعب هو الذى يختار مصيره بإرادته وليس القيادات، وإذا هب هذا الشعب لنيل حريته لا يوقفه أحد، ولا أعتى متاريس الأمن وسلاحه”.
ورغم أن الافتتاحية خطَّأت الداخلية بشكل واضح وبعبارات لا لبس فيها فيما فعلته أجهزتها فى اقتحام نقابة الصحفيين التي وصفها بأنها “معقل الحرية فى مصر”، وذكَّر قادة الداخلية بأن ما فعلوه “جاء فى وقت يحتفل فيه الصحفيون بالعيد الماسى لتأسيس نقابتهم الجامعة التى تحوى كل أطياف العمل السياسى والحزبي”، ثم لفت نظر قادة الداخلية إلى أن “الصحفيون ليسوا إرهابيين كى يقتحم ثلة من رجال الأمن بيتهم العتيق، مهما تكن الأسباب، ثم يخرج علينا المتحدث باسم الداخلية ويدعى أن الأمن لم يفعل كذا وكذا؟”.
وأرجو القارئ المحترم أن يغض الطرف عن كل ما جاء في السطور السابقة، ونمضي في قراءة الافتتاحية لنجدها تقول: ثمة خطوة متوقعة، وهى إعلان إقالة وزير الداخلية رداً على هذا العمل البشع الذى أصاب مصر كلها بالغثيان” ، ذلك لأن المسألة عند كاتب الافتتاحية العبقرية لم تعد مسألة خطأ في اقتحام النقابة وفقط، ولكنه تحدث عن جريمة أخرى ترتبكها الداخلية في نظره تتعلق : “بعائلات كثيرة تئن بسبب غياب شبابها وراء جدران السجون بلا قضية، وإنما أيضاً تحت وهم العمل ضد الدولة، ونحن هنا لا نعرف بعد ما هذه الدولة التى يتحدث عنها الأمن، ويدعى أنه يجتهد لتأمينها، وهل أصبحنا وشبابنا أعداء للدولة؟”.
ورغم أن الدعاية الرسمية تؤكد ليل نهار على أنه لا يوجد داخل السجون معتقل بدون قضية وبمرعفة النيابة أو القضاء إلا أن علام وفي افتتاحية “الأهرام” راح يتهم الداخلية بأنها وراء ما تعانيه عائلات كثيرة بسبب غياب أبنائها وراء جدران السجون بلا قضية، وتحت وهم العمل ضد الدولة”، وهي تهمة جديدة شنيعة تستوجب ما هو أكثر من إقالة هؤلاء المسئولين عن مثل هذه الجريمة.
ويمضي كاتب الافتتاحية قدماً ليطالب قيادات الداخلية:” بالكف عن هذه اللعبة القديمة، فهى إن فلحت فمؤداها فى النهاية التهلكة، ليس لنا ولشبابنا ولشعبنا، وإنما لمن يلعب بهذه اللعبة”، ثم توجه علام إلى من سماه “الدولة الحقيقية التى يعشق الصحفيون ترابها”، بطلب ملح في :” أن تلملم الجراح وتجرى تحقيقاً سريعاً لنزع فتيل الأزمة بين الصحفيين والسلطة”.
واختتم كاتب الافتتاحية بالتأكيد على “ما سبق للرئيس السيسي أن أكده فى كل كلماته وخطبه عن حرية الرأي والتعبير، وهو مبدأ أساسى من الدستور أيضاً الذى انتهكه رجال الأمن بحجج واهية عفا عليها الزمن، وعليه، فنحن لا نريد سوى إصلاح لهذا البلد الذى لن يتقدم سوى بحماية حرية الرأي، هذا العنصر الأساسى لتقدم الشعوب، وإلا فإن الدولة ستكون أول من يدفع ثمن انتهاك هذه الحرية والتضحية بمبادئ تقدم الإنسانية”.
والسؤال الآن: هل قال نقيب الصحفيين في أي وقت من أوقات اشتعال الأزمة بين النقابة وبين الداخلية ربع هذا الكلام الذي ورد على لسان كاتب المقال عن أزمة “ريجني” أو ما جاء في افتتاحية جريدة علام، الأهرام سابقاً.
هل يدعي محمد علام أن من أملاه مقاله الأول عن أخطاء الداخلية في واقعة “رجيني” هو نقيب الصحفيين؟، أم أجبره على كتابة تلك الافتتاحية النارية ضد وزارة الداخلية؟
بعد كل هذه الأخطاء وبعد كل هذه الاتهامات التي نسبها علام لقيادات الداخلية حسب ما جاء في مقاله، ثم في افتتاحية الأهرام التي يرأس تحريرها، يبقى السؤال المطروح على علام : هل سقطت تلك الأخطاء والاتهامات بالتقادم؟، أم سقطت بالتعلميات؟.أم صرت أنت القائم بأعمال إبليس في تأجيج أزمة الصحفيين مع البوليس؟.