جمال سلطان
حريق القاهرة الثاني وأسئلة محيرة
تشهد القاهرة هذه الأيام ظاهرة الحرائق الغامضة والكبيرة وواسعة النطاق والمدمرة لمساحات واسعة من الأماكن والمنشآت والمباني والمتاجر ، حتى أن الناس لم تعد تسأل إن كان هناك حريق اليوم أم لا ، وإنما أصبحت تتساءل كل صباح عن موقع الحريق الجديد قبل أن يقع ، لشكوكهم في ظاهرة الحرائق وأن وراءها يدا فاعلة ومتآمرة ، والغريب أن جميع الأطراف السياسية مجمعة على أن هذه الحرائق بفعل فاعل ، أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي يؤكدون أنها ليست عفوية وأن الإخوان وأنصار مرسي هم المتورطون فيها من أجل إرباك الدولة وإحراجها وتقليب الرأي العام عليها ، وأنصار مرسي والإخوان يقولون أن جهات في الدولة متورطة في هذه الحرائق من أجل "تهجير" من فيها من سكان ومتاجر ومنشآت لأجل نقلها إلى آخرين حسب ما زعموا ، والقوى السياسية المدنية المعارضة تلمح إلى أن هذه الحرائق جزء من مخطط مرتبط برؤوس أموال مصرية وعربية تهدف إلى الاستيلاء على مناطق حيوية من القاهرة تقدر بالمليارات ، وخاصة في منطقة القاهرة المملوكية أو الفاطمية ، والخلاصة أن كل الأطراف في مصر متفقة على أن هذه الحرائق مقصودة وبفعل فاعل وليست عفوية ولكن كل طرف يرمي الطرف الآخر بالتهمة . لم تعرف القاهرة حرائق بهذا الاتساع والخطورة في قلبها منذ حريق القاهرة الشهير والتاريخي في العام 1952 ، وهو الحريق الذي مهد البلاد لتحول تاريخي في حركة الضباط الأحرار بعد أشهر قليلة ، وقد شهدت منطقة العتبة والموسكي ، وهي منطقة من أضخم المناطق التجارية في القاهرة وأكثرها ازدحاما ، شهدت حريقا هائلا استمر ثمانية عشر ساعة متواصلة قبل أن تتم السيطرة عليه ، رغم أن تلك المنطقة يقع أمامها مباشرة على بعد أمتار مقر المطافي الرئيسية ، وقد استغرب كثيرون أن يستمر حريق في تلك المنطقة ثمانية عشر ساعة متواصلة ، يوم كامل بليلة ، وتساءلوا عما إذا كانت الدولة غير مؤهلة للسيطرة العاجلة على الحرائق في وسط العاصمة ، فكيف إذا كانت في قرية بعيدة أو مدينة من مدن الدلتا أو الصعيد ، ولماذا لم تتدخل مؤسسات أخرى تملك إمكانيات أعلى للمساعدة في السيطرة على الحريق ، والذي انتهى بتدمير أرزاق آلاف التجار والعاملين في تلك المنطقة المهمة ، وتحويلها إلى أطلال وخراب وخسائر بمئات الملايين . الأخطر من ذلك ما صدر من تصريحات لبعض مسئولي محافظة القاهرة عقب الحريق مباشرة ، من أنهم يخططون للنهوض بتلك المنطقة وتحويلها إلى ظاهرة حضارية ، ولا نعرف تفاصيل مشروعات "الظاهرة الحضارية" ومن الذي سيقوم بها ، لكن الأمر يبقى غريبا أن لا يتم التفكير في الحضارة إلا بعد حريق البلد ، والسؤال البديهي ، ألا يصح أن نفكر في صناعة الحضارة بدون حرائق ودمار لأرزاق البشر . وبعد يومين فقط من حريق العتبة يتفجر حريق آخر على بعد نصف كيلو متر فقط ممن المنطقة ، في حي الغورية بالأزهر ، وهو أيضا حي تجاري وتاريخي ، واستمر الحريق ساعات دمر محلات كثيرة ، ولكنه لم يمتد زمانا ومكانا لما حدث في حريق العتبة الذي كان قبله بيومين ، وهو ما جعل الأهالي يبدون غضبا عارما ضد الحكومة وضد السيسي نفسه ، وقد ظهر ذلك في الهتافات التي نقلتها بعض شاشات التليفزيون ، كما أن هناك ما يشبه الإجماع الآن على أن هذا الحريق وما قبله لا يمكن أن يكون عفويا أو صدفة ، وأصبح الجميع ينادون بضرورة الكشف عن المتورط أو المتورطين في هذه الحرائق المشبوهة ، خاصة وقد نشبت حرائق غامضة أخرى وإن كانت أقل خطورة في أحياء عدة من القاهرة في نفس التوقيت. الناس أصبحت تفقد الثقة بشكل متزايد في الأداء الحكومي بل وفي نزاهته أيضا ، كما أن غياب الصراحة والوضوح في بيانات الحكومة عن الأحداث والمراوغة والاستهبال في تسطيح الأمور والتخفي خلف شعارات وطنية زائفة للهرب من المسئولية عن الأخطاء ، كل ذلك لم يعد يمر على وعي الناس حتى البسطاء ، وهو مما فاقم من غياب الثقة ، وردود الأفعال الشعبية تجاه حرائق القاهرة الأخيرة كافية لتأكيد هذا الغياب .