د. حسام عقل
حلب و القرموطي ..عوار الضمير لا يصنع فنا ..!
كلما استحكمت حلقات الأزمة العربية الشاملة _ و المصرية خصوصا _ ذابت الأقنعة تدريجيا كنسيج الشمع , و ظهر أكثر فأكثر , شر الوجوه و حقدها الأسود الموتور أو تعرت ضحالة هذه الوجوه إلى غير حدود , و كلما مدت المحنة الدامية رواقها , تكشفت الحركة الفنية في مصر تحديدا عن ( جيب صغير ) تعس مقزز, يعشش فيه التبلد و تجمد الضمائر و الائتمار المستمر بأمر السلطة أو الانطراح المنقاد ( المازوخي / المرضي ) في عباءة الأنظمة طمعا في كيس ريالات أو صرة دولارات أو بضع ضحكات معربدة مستكرهة , لا يمكن ألبتة أن تكون فنا , أو ترتبط , بأية صلة جمالية أو إنسانية , بفكرة الفن من قريب أو بعيد ! من داخل أستوديو مكيف تابع لشبكة قناة ( الحياة ) , و على مسافة ثمانمائة و سبعين كيلو مترا من ( حلب ) الشهباء , قرر كوميديان انحسرت عنه الأضواء _ من زمن ! _ أن يبارح منطقة الظل , بعد أن تجاهله الجميع , و زهد المخرجون في طلبه أو التعامل معه بعد أن تبددت لديه قدرة الإضحاك و حل محلها شيء غير قليل من السماجة و ثقل الظل , و هو ما نجم عنه أسوأ ما يتعرض له فنان عموما , أعني لزوم البيت بعد زهوة الشهرة و الأضواء و الأوتوجرافات ! بوضوح قرر الكوميديان ( أحمد آدم ) ( 1958 _ ..) , خريج تجارة ( الإسكندرية ) , أن يتخذ من مجزرة حلب , حيث دوائر الدراما الدموية و اللهب و الموت , مادة للإضحاك في حصة إعلامية فاقدة للأهلية , رافعة للضغط تسمى : ( بني آدم شو ) ! و هي حصة فاقدة الصلة بالكوميديا أو ( التوك شو ) أو الثقافة أو حتى الحس الإنساني في أدنى صوره ! وبقطع النظر _ مؤقتا _ عن المأساة الكبرى ممثلة في فاجعة حلب الشهباء التي تستقبل قدر الموت الدموي الفظ برصاص ديكتاتور ملتاث غاب عنه آخر ظلال الرشد , فإن ثمة مأساة صغرى ممثلة في ( أحمد آدم ) نفسه , الذي عجز , عبر سنوات , عن أن يكون في بلاتوهات السينما نجما , بمثل ما عجز عن أن يكون في أستوديوهات الدراما التليفزيونية بطلا , فلازمه قدر ( الممثل المساعد ) , و فطن المخرجون و مؤلفو الدراما إلى أنه لا يملك إلا أداء جسديا ساذجا تمخض عن تكوين ضحل يسمى ( شخصية القرموطي ) , اعتقل ( أحمد آدم ) بين جدرانها فلازمته و لازمها , و حين ذهب وهجها , افتضحت إمكاناته المتواضعة و ظهرت سذاجته الفنية المفرطة و تكشف غيبة ذكائه الفني بصورة فاضحة ! انطلق أبناء جيله يتألقون و يحصدون رهانات السباق و تنوعت أدوارهم الإنسانية و الكوميدية ( صلاح عبد الله نموذجا ! ) , و ظل ( أحمد آدم ) لا يراوح المكان , زحفت إلى ملامحه و جسده بصمات العمر المتقدم , و طرأت على صوته ( بحة ) سمجة لا تثير أي ضحك بل تشعرك بالاستكراه و اغتصاب الضحكات اغتصابا ! و توالى فشله السينمائي الذريع في أفلام ضحلة تهيب بالأميين أو المخدرين , من مثل : ( شجيع السيما ) و ( صباحو كدب ) و ( لا مؤاخذة يا دعبس ) , و بالتوازي توالى الفشل المسرحي فمرقت سريعا أعماله المسرحية التي حاول أن يتصدر فيها أدوار البطولة , من مثل ( حودة كرامة ) أو ( برهومة وكلاه البارومة ) او ( ربنا يخلي جمعة ) , و كانت هذه الأعمال أجراس إنذار كافية للمنتجين , كي يحجموا عن التعامل معه و المخاطرة بأموالهم , رهانا على حالته التعسة التي لا تزداد إلا تواريا و ذبولا ! و كان الاستفتاء النهائي على استمرا ر حالة ( أحمد آدم ) في الوسط الفني هو مسلسل ( الفوريجي ) , الذي حاول أن يعود به إلى النجومية عام 2010 , فتمخض عن فشل كامل , غاص معه و بعده ( أحمد آدم ) في بئر النسيان السحيقة , حيث تأكد المنتجون و المخرجون من عقم حالته الفنية , و تأكد الجمهور من تواري وهجه إلى الأبد ! منحته قناة ( الحياة ) قبلة الحياة , ليعود إلى الأضواء و يشتبك مع الحالة العامة _ على أن تكون في إطار تجميل السلطة و السخرية المرة من خصومها _ أملا في تكرار تجربة ( باسم يوسف ) , و زودته ب ( قهقهات ) مستأجرة مستكرهة , من داخل ( الأستوديو ) عن طريق جمهور مجلوب إلى مدينة الإنتاج , يصفق بإشارة الإصبع , و يضحك بالتنسيق و الأمر ! يأتيه الضوء الأخضر من المخرج , في مقاطع بعينها فيعلو صوته بالضحك المفتعل المعربد , كثلة أشقياء في ماخور يتطوحون من السكر ! فلم تكن الحصة الإعلامية في مجملها _ بجمهورها المستأجر الضاحك _ أكثر من قنبلة صوت سخيفة لا حد لسخافتها ! و كانت الكارثة , حين جعل ( القرموطي ) من ( حلب ) مادته الجديدة للإضحاك , حيث نفى عن الجيش السوري جريمته النكراء ( هل مازال جيشا نظاميا أم استحال ميليشيات طائفية للقتل على الهوية ؟! ) , مؤكدا أن الأمر برمته مجرد مشادة بين ( داعش ) و ( جبهة النصرة ) ! و تقمص دور امرأة حلبية في مداخلة هاتفية تصرخ : ( ..باكلمك من حلب ...آآآييييي..! ) متسائلا : كيف تتم مكالمات هاتفية من ( حلب ) , و قد قطع عنها الماء و الهاتف ؟! و كأن المسكين لا يدري أن هناك ما يسمى ب ( الإنترنت الفضائي ) و ما يسميه أشقاؤنا العرب ب ( هاتف الثريا ) ! و كأن أسوأ ما في هذه الحصة الإعلامية المتبربرة , سخرية ( القرموطي ) من الوجوه المتعفرة بالتراب التي خرجت من تحت الأنقاض , مؤكدا انها مجرد وجوه ( مرشوشة بودرة ) للتمويه ! ! و بقطع النظر عن أية اعتبارات إنسانية أو أخلاقية أو دينية , فإن ثمة سؤالا يفرض ذاته : كيف تصور ( آدم ) _ و من معه ! _ أن سقوط ( براميل متفجرة ) على أسر آمنة , مفعمة بالحياة و الأمل , يمكن ان يضحك أحدا مهما بلغ تبلده ؟ ! و كيف تصوروا ان مصر الشعبية يمكن أن تستقيل من إسلامها و عروبتها بهذه البساطة , لتسخر من مأساة مدينة كانت عروسا في جلوتها ’ لتصبح كومة أحجار و أطلال و أنقاض ؟ ! و كيف فكر معدو ( بني آدم شو ) , أن مشهد سيدة حلبية تخرج من تحت الأنقاض , مغبرة الوجه و على جبهتها خيط من الدم النازف , يمكن أن يكون مصدرا لإضحاك , حتى و إن استقلنا من الصفة الإنسانية و قررنا في فورة جنون أن نتلبس الصفة الشيطانية و نلبس ثياب ( فاوست ) ؟! لم تكن الحصة الإعلامية ( السادية ) , أكثر من مبادرة ( غير مقصودة ! ) لإسقاط مزيد من الأقنعة عن حركة فنية عقيمة , تصر على بذل ذاتها في عباءة الأنظمة و السلطات , في نخاسة جديدة , مقطوعة الصلة بالفن , ومنزوعة الرابطة بالضمير الأخلاقي الحي ! إنها _ يا قرموطي _ ( حلب ) مدينة الجمال و الاقتصاد , التي تأسست لعشرة آلاف سنة قبل الميلاد , لتعاصر ( روما ) القديمة , و ( بابل ) و ( نينوى ) , حيث تكتسب عروس المدائن زهوتها مجددا , حال فتح ( خالد بن الوليد ) لها لتعمرها كتائب الحضارة الإسلامية الرفيعة , فنا و ثقافة و أدوارا حضارية متجددة . إنها عاصمة ( الحمدانيين ) , التي سجلت أخلد سطور المجد _ بقيادة ( سيف الدولة الحمداني ) _ وواصلت مجدها المشهود في رحلة وثيقة الصلة ب ( القاهرة ) , هدفا وولاء و نضالا . لست قلقا على مستقبل ( حلب ) , و إن مزق نياط قلبي حاضرها , فلدى هذه المدينة العجيبة قدرة مذهلة على مواصلة الحياة , و لا أدل على ذلك من تعرضها لزلزال مدمر عام 1138 م _ راح ضحيته فيما يقول المؤرخون نحو من مائتين و ثلاثين ألف إنسان ! _ و لكن براعم الحياة المخضرة المعشوشبة تفتحت فيها مجددا لتواصل مسيرة النضارة و الخصوبة . سيبقى عشق ( حلب ) يستوطن قلوب المصريين بلا حدود , و ستبقى حصص الإسفاف المتجرد من الضمير الأخلاقي , مجرد ( بثرة ) متقيحة , في جسم عفي , سيتطهر من هذه البثرة يوما لا أراه بعيدا . الأمكنة لا تصنع بشرا و لكن البشر _ بوعيهم و نبلهم _ هم الذين يصنعون الأمكنة . و لعل هذه الحقيقة هي التي دفعت الجغرافي و المؤرخ ( أبا إسحق الاصطخري ) في ( المسالك و الممالك ) , إلى أن يقول في ( حلب ) : ( ...هي عامرة بالأهل جدا ...) . كل التحايا و أناشيد الخلود لعمار حلب , و العار لفنون النخاسة و السخرية من محن الأوطان !