فيتو
محمد طلعت الجندى
المشروعات المحروقة
ماسبيرو..الترجمان..أولاد علام.. درب سعادة.. حمام التلات.. الغورية.. الرويعي.. باب الشعرية..درب البرابرة.. المناصرة..ما وراء الأزهر والحسين.. قلب قاهرة المعز القديمة بأسواقها ودروبها وحاراتها وأبوابها. يتركونها هكذا يلتهمها غول العقارات، إنه السفه يا سادة مصر ألا تعلمون.

أصاب سماسرة التجارة والعقارات "سادة مصر الجدد" الجنون، فما عادوا يرون مصر إلا أرضا للبيع والتنازل والتسقيع، وإن لم يحصلوا عليها يحرقونها.

الحرائق الأخيرة لن تكون الأخيرة في سلسلة إخلاء أماكن لها ملامح وعمق تاريخي، لأن التاجر والسمسار لا يفقه فقه المكان. فهو يريد مسح كل ما يذكره بضآلة تاريخه وعقله، فالهدف عنده واحد هو الإخلاء والهدم، وإقامة مولات حديثة. وطبعا التشريد للسكان الأصليين، ولصغار الباعة الذين يقدمون بضاعة رخيصة للزبون الفقير. لا رحمة، لا إنسانية، لا عدالة اجتماعية.

مَن وراء الحريق؟! سؤال يطرحه الحارق كي يبعد الأنظار عنه، وفي الواقع لا يهم صفة الحارق، ولا يهم هل الحريق مدبر أم صدفة؟ لأنه في الحالتين سيتم الاستفادة لصالح همج الرأسمالية العقارية التي وجدت في مصر مرتعا خصبا لها.

الحرق الخبيث(المعنوي والمادي) يستمر في تطهير قلب المدينة من ملامحها الإنسانية التي تتسم بالفقر والعشوائية في هدم دكاكين الحِرف أصحاب الرزق يوم بيوم، وحرق مشروعاتهم البسيطة، ليحتل مكانها محلات تجارية وسياحية وترفيهية واستهلاكية، لتتبدل الوجوه من السعي على باب الله إلى السعي إلى التخمة والنرجسية، إنه عين الفُجَر تفسق بالحلم المشروع لمن يتكل "على باب الله".

لا، الأمر ليس فيه أي طبقية أو حقد. هو فقط حالة من التفنن في سرقة الأحلام. باختصار، إن المال سلطة والجشع يصنع للمال دولة تُخدم عليه دائما الحكومة، وعادة يكون كل هذا على حساب المواطن الذي طالما يُحرق حلمه في التنفس بحياة كريمة، فتهجره الحكومة، وفقا لحسابات ومصالح سماسرة المال.

الحلم المحروق هو باب رزق بسيط تم غلقه، وعندما يتقلب الحالم على جانبيه ألما يتم جلده، وتأنيبه بأنه أحد أهم أسباب حرق حلمه. طبعا، وهو الموسوم بالعشوائي الهمجي الاستغلالي الذي يستنزف الدولة ويشوه المنظر الحضاري للوطن. تهمة سهلة وبسيطة ومكررة، وعادة تصلح لكل العصور المستبدة. إذن حرق حلم هو العقاب والحل وترحيله إلى أطراف المدينة وتخومها، كي تتفرغ أساطين السلطة لبناء الوجه الحضاري!

حسنا، (اسرق وابنِي صح)، ولتكن التجربة الكورية الجنوبية التي يتم الترويج لها في مصر في نقل أخبارها، مرشدنا، فلنتعلم منهم قليلا من إنسانيتهم في شأن الرأسمالية العقارية. كيف يحصلون على الأحياء القديمة؟ وكيف يعوضون الناس؟ وكيف تراقب الحكومة ذلك؟ فلا مجال لسرقة حلم ولا حرق مشروع، إنما تطوير حلم وتعظيم مشروع حضاري حقيقي يجمع الحداثة بجوار العراقة مع المحافظة على الإنسان "حتى لو كان شكله وحش"!

أما الذي عندنا فحرامي غشيم يتباهى بسرقة الأحلام وحرق المشروعات. لذلك سنبقى في ممر عنق الزجاجة. ذلك المصطلح العبقري الذي اختصر تصوير اقتصاد مصر المنهوب.

وفي نفس السياق الذميم تتردد عبارة خبث "مصر تحترق"، وهي تذكرني بصدى أخبث "مصر تنتخب" أيام مملكة الإخوان والعرس الديمقراطي، ولكني كنت أرى أن" مصر تنتحب"، وأقول الآن "مصر تتحرر" من قلب حرائقها، فالويل لمن يتعدى على ملامح أمكنتها، فهي روحها. وسرها محاط بلعنة الزمن تصيب من يجرؤ على تغيير بدنها سواء بالبيع أو التسقيع أو الحرق.

وبنبرة صوت رئيسنا، "أقول تاني، مش هي أرض الكنانة ومقبرة الغزاة، صحيح، مش كدا ولا إيه.. طب والله ليتحاكموا..."!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف