حين اهتزت حقيبة يدي، و أصدرت العملات المعدنية الموجودة داخلها صوتا عاليا " شخللة"، قفز في ذهني المثل الشعبي القائل" الصيت ولا الغني"، وسألت نفسي هل هذا ما كان يعينه المثل؟ هل يكفي أن يشعر الناس ويعتقدوا انك غني أفضل من أن تكون غنيا بالفعل؟
فالأغنياء لا تصدر حقائبهم أو جيوبهم صوتا، لأنها تكون مكتنزة بالأوراق النقدية، وكروت الفيزا الالكترونية!
وقياسا علي ذلك، هل يكفي أن تكون ذائع الصيت مشهورا بأخلاقك الرفيعة ، وتصاحب تصرفاتك الأخلاقية " شخللة"!. وداخلك خاويا منها؟
كم من صديق ذائع الصيت بالشهامة والمروءة، وحين نلجأ إليه يخذلنا، حتى بمجرد الإنصات لشكوانا وآلامنا. وكم من طبيب مشهور يقف علي باب عيادته مئات من المرضى، والحجز لدية في قائمة الانتظار بالشهور، لا يستطيع علاج ابسط أنواع المرض.
كم من ثرى مشهور بكرمه، طرقت بابه يد العوز فردها خاوية!
كم من كاتب أو أديب أو سياسي مفوه، يصيح مطالبا بالمُثل العليا وتطبيق الأخلاق الحميدة، وهو أخر من يمارسها في حياته الخاصة!. كم منا يصرخون من غياب وندرة الحب، وهم أول من يمارسوا الكراهية والحقد!
في الغالب وبالتحديد في هذا الزمن، نجد أن من لديهم المروءة والكرم والموهبة غير ذائعي الصيت، ولا يسعون إلى الشهرة، نجدهم يعطوا ويمنحوا ويكدوا في صمت دون " شخللة".
فكريم الأخلاق دائما تصاحبه صفة الحياء، ويأبى عليه حياؤه عن البوح بما أعطى ومنح.
والأدهى والمرير في حياة تلك القلة النادرة من أصحاب المروءة والأخلاق الرائعة ، أنهم يسيرون بين الناس وكأنهم مرايا، كاشفة لدواخل كل من ينظر فيها ، فيسارع كل من يرونهم ، أو يقتربون منهم، بالتقليل من شأنهم، ويتجاهلون عن عمد وسبق إصرار وترصد مواقفهم الكريمة، حتى لا تفضح دواخلهم أمام ذاتهم، ولا يُظهر سوء عملهم، وجهلهم ، ومنقلب أخلاقهم.
من هذا المنطلق أعتقد أن للمثل الشعبي" الصيت ولا الغنى" تفسير آخر، فهو حكمة أكثر منه مثل، المقصود منها أن من الأفضل لكرامتك أن تكون معروف بالغنى رغم فقرك، أن تجعل من عِزة نَفسك وكتمان عوزك حائط صد، يدرءا عنك نظرات العطف ممن حولك، ومصمصة الشفاه عن حالتك المسكينة تلك الحكمة البالغة الروعة، تغص في النفس ، لتخرج منها نموذج للشخص العفيف، وأين لنا في هذا الزمان بمثل هذا الشخص العفيف؟!
والجزء الثاني والأهم من وراء تلك الحكمة، أنها ستكافئك لعِفتك ، وسُتكشف لك عن المعدن الحقيقي لكل من حولك، ستُكشف لك عن كل عفيف مثلك.
فالكريم والثرى والصديق أصحاب الخُلق الحَق، من غير ذائعي الصيت، لن ينتظروا منك أن تطلب المساعدة، هم من سيشعرون بحاجتك دون أن تُصرح، سيعلمون حاجتك دون أن تُعلن، سيبادرون بمد يد العون لك ، في حياء وصمت وكتمان و... ودون " شخللة ".