جمال سلطان
القضاء والسياسة ومطلب إزالة الالتباس
تتحدث الأخبار الجديدة عن إحالة ستة من القضاة إلى الصلاحية وإحالة حوالي خمسين آخرين للتفتيش القضائي تحت طائلة تعبيرهم عن رأي وطني سياسي في مسألة جزيرتي تيران وصنافر التي أعلنت الحكومة عن أنهما جزء من الأراضي السعودية وتمت الموافقة على تسليمهما إلى المملكة ، القضاة أو قطاع منهم علقوا على هذا الحادث بوصفه يمس الوطن كل الوطن وأرض مصر ، بعيدا عن أي تجاذبات سياسية أو حزبية ، مجرد تعليق عام من موقف وطني خالص لا شأن له بأي ميول حزبية أو انتماءات ، لذلك جاء قرار إحالتهم إلى الصلاحية في خطوة أولى لإدانة فعلهم ليطرح تساؤلات عديدة عن مدى شرعية السياج الذي يفرض على القاضي كمواطن مصري ليعزله تماما عن وطنه ومسائله الحيوية وشأنه العام ، وهل هناك قاعدة تقول أن القاضي يغض الطرف ويلجم ضميره عن أي موقف وطني يرى أنه مهدد لسلامة البلاد أو يمثل حيفا على حقوقها التاريخية في تصوره ؟. تحكي لنا خمس سنوات خلت من تاريخ ثورة يناير وحتى الآن عن عشرات المرات التي تدخل فيها مئات القضاة في الشأن العام ليبدو آراءهم ، وبعضها كان لا يخلو من الانحياز السياسي في صراعات داخلية ، وكان نادي القضاة برئاسة المستشار أحمد الزند أشبه بحزب سياسي طوال عدة سنوات ، لا يترك صراعا سياسيا مع فصيل من ثورة يناير أو جماعة الإخوان أو غيرهم أو وزير أو حكومة أو حتى رئيس إلا وانبرى للاشتباك معه والتعليق عليه والتواصل المباشر مع الصحف والفضائيات للتعليق والحوار والمناظرات أحيانا حول مواقف سياسية عديدة ، دون أن يقلق ذلك أحدا أو يعرض الزند أو غيره من السادة القضاة لأي مراجعة من أي جهة قضائية أو مرجعية قضائية ، رغم أن أغلب هذه القضايا السياسية التي اشتبكوا معها تتعلق بخلافات سياسية داخلية بين القوى الوطنية والحزبية وحسابات المصالح . أيضا ، في الاجتماع الشهير الذي انعقد في 3 يوليو 2013 والذي انتهى بالإعلان عن قرار سياسي بعزل الرئيس الذي تم انتخابه شعبيا ودستوريا قبلها بعام واحد ، كان حاضرا في قرار عزله رئيس مجلس القضاء الأعلى ، وهو من المحال أن يكون حاضرا بشخصه اجتهادا ، وإنما بتفويض من أعضاء مجلس القضاء الأعلى ، وهذا الموقف يمثل اشتغالا صريحا بالسياسة وصراعاتها ، بغض النظر عن تقييم هذا الموقف وصوابية الرأي فيه ، أو أن يكون انتهى بعزل مرسي أم لم ينته إلى ذلك ، وإنما الشاهد أنه شهد مشاركة رئيس مجلس القضاء الأعلى في أزمة سياسية وطنية قرر فيها رئيس مجلس القضاء المشاركة والمناقشة والتوقيع على عزل رئيس الجمهورية ، وفي نفس الاجتماع كان حاضرا للمناقشة السياسية وإبداء الرأي السياسي أيضا رئيس المحكمة الدستورية العليا ، وهو أيضا ، لا يمكن تصور أنه حضر هذا العمل السياسي الخطير بدون تفويض من أعضاء المحكمة ، وهذا اشتغال صريح بالسياسة وانخراط فيها ، أيا كانت التفسيرات أو المبررات ، كما أنه تولى بعد ذلك مسئولية السلطة التي انتزعت من الرئيس المنتخب وأصدر قرارات سياسية وانحاز لاختيارات سياسية ، ثم عاد بعدها إلى المحكمة الدستورية ليتولى رئاستها كأن شيئا لم يكن ، وكأن كل مواقفه السياسية التي اتخذها لا تؤثر شيئا في كونه قاضيا ، بل ورئيسا للمحكمة العليا التي يمكن أن يلجأ إليها آخرون للطعن على مجمل تلك المواقف كلها التي حدثت من 3 يوليو وما بعده . تبدو الأمور ملتبسة جدا في حدود العلاقة بين القاضي والشأن العام ، بين القضاء والسياسة ، بين رجال العدالة والمسألة الوطنية ، كما تبدو المشكلة غير واضحة بشكل حاسم ، فهل الاعتراض هو على وجهة الاختيار السياسي للقاضي إذا كان على غير هوى السلطة التنفيذية أم أن الاعتراض هو على التعبير عن الرأي السياسي أيا كان ، أتصور أن مؤسسة العدالة مطالبة بإزالة هذا الالتباس ووضع قواعد واضحة للجميع ، وملزمة للجميع ، كما أتصور أنها مطالبة بتفسير "قانوني" لما سبق من مواقف سياسية أيضا في ضوء تلك القواعد الجديدة المنتظرة .