الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
النهضة ومعجزات النهضة
مازلت أفكر فى النهضة المصرية الحديثة التى تنكرنا لها وأراجع ماكتب عنها وأتأمل ما تحقق فيها من معجزات.
نعم معجزات، رغم ترددى فى استخدام هذه الكلمة التى تسمى ما لانجد له أصلا أو أسبابا تفسره، وبهذا تكون النهضة المصرية ظاهرة خارقة هبطت علينا من فوقنا، فنحن لانستطيع فهمها، ولا نستطيع استعادتها، ولانستطيع استئنافها واستكمالها.

لا، وإنما كانت النهضة المصرية ظاهرة تاريخية لها أسبابها المباشرة وغير المباشرة، وكانت إنجازا مصريا تحقق بجهود المصريين وبما كانوا يملكونه ويحلمون بامتلاكه، وهى مع هذا حافلة بالمعجزات أو بما يشبه المعجزات، لأنها تحققت بجهود وطاقات لم تكن ظاهرة لنا كلها، ولم نكن نحسب حسابها كلها، وبخطى سريعة كأنها قفزات، وفى بضعة عقود مرت كأنها غمضة عين وأعطت من الثمرات مالايزال يدهشنا بنضجه وحيويته وقدرته على تحدى الزمن. فإذا لم تكن المعجزات اسما مناسبا لما تحقق فى النهضة التى خرجت بها مصر من عصر انحدار واضمحلال استمر ثلاثة وعشرين قرنا فماذا يكون الاسم المناسب؟

فى القرن السادس قبل الميلاد فقدت مصر دولتها المستقلة التى عاشت فى ظلها ثلاثة آلاف وأصبحت ولاية مهيضة الجناح تابعة للدول الأجنبية التى استولت عليها واحدة بعد الأخرى إلى أن استردت استقلالها بالنهضة التى قادها محمد على فى النصف الأول من القرن التاسع عشر. فهل نعرف ما الذى فقدناه فى عصور الانحطاط وما الذى حققناه فى عصر النهضة؟ نعرف أننا فى عصور الانحطاط فقدنا استقلالنا، لكن الاستقلال لم يكن كل خسائرنا. وإنما خسرنا معه كل ما يكون لأمة حين تفقد المؤسسات والأدوات التى تحرس بها أمنها وثرواتها، وتنمى طاقاتها البشرية والمادية، وترعى ثقافتها وتمثل شخصيتها. وحين نقرأ تاريخنا القديم ونعرف منه أن مصر كانت خلال الألفين السابقين على ميلاد المسيح بين وضع من وضعين: إما أن تكون امبراطورية تضع يدها على كل البلاد المحيطة بها، وإما أن تقع فريسة فى أيدى القبائل والعشائر والدول الطامعة فيها، وتصبح ولاية خاضعة لها ـ حين نقرأ هذا التاريخ نعرف منه كيف فقدنا دولتنا المستقلة وفقدنا معها كل ماتحميه الدولة ويضمنه الاستقلال.

مصر فى الألف الثالث قبل الميلاد كانت دولة مستقلة مكتفية بذاتها لاتطمع فى شىء خارج حدودها ولا تستطيع قوة خارج حدودها أن تطمع فيها. لكن مصر المتحضرة الغنية التى أصبحت جنة الله فى صحراء الله التى تمتد على جانبيها شرقا وغربا أصبحت مطمع القبائل البدوية والهجرات الجماعية التى تدفقت عليها موجة بعد موجة، كما فعل الهكسوس فى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وكما فعل بعد ذلك الحيثيون والأشوريون والليبيون وشعوب البحر وسواهم من الغزاة الذين قاومهم المصريون ألف عام وطردوهم من بلادهم. لكن مصر فقدت بعد ذلك قوتها العسكرية وسقطت فى يد الفرس فى القرن السادس قبل الميلاد ومن بعدهم فى يد المقدونيين والرومان والعرب والشركس والأتراك الذين جثموا على صدورنا ثلاثة وعشرين قرنا فقدنا فيها دولتنا وطبقتنا الحاكمة ونخبتنا المثقفة.. وباختصار، فقدنا كل شىء كما حدث للعنقاء فى الأسطورة المصرية القديمة التى تقول إن العنقاء حين أكملت المائة الخامسة من عمرها المديد أحرقت نفسها وصارت رمادا ثم انبعثت من رمادها فى حياة جديدة.

هذا ما حدث لهذا الطائر الأسطورى. فكيف نهضنا نحن من رمادنا؟ لقد حرص الغزاة الأجانب الذين حكمونا على أن يجردونا من كل ثرواتنا حتى من قوانا البدنية التى أصبحت مسخرة لهم، فنحن فلاحون فقط، رقيق أرض، أصحاب جلابيب زرقاء، نزرع للغزاة ونحصد لهم، ونحن لانشارك فى حكم بلادنا بأى صورة من الصور. ونحن ممنوعون من حمل السلاح لأننا حين نحمل السلاح لن نكتفى بأن نسترد استقلالنا، بل سنواصل التقدم لنضع أيدينا على مصادر التهديد فى البلاد المحيطة بنا كما فعلنا بعد أن طردنا الهكسوس وطاردناهم إلى أن بلغنا شمال سوريا وأعالى الفرات. وتلك كانت حالنا التى فرضها الغزاة الأجانب علينا حتى دخل بونابرت مصر. ما الذى حدث لننهض من رمادنا هذه النهضة التى انتصرنا فيها أول ما انتصرنا على الانجليز الذين دخلوا الاسكندرية ليقفوا إلى جانب المماليك فى صراعهم مع محمد على فتصدى لهم أهل رشيد، حين وصلوا إليها وأوقعوا بهم هزيمة منكرة، ومن رشيد سرنا إلى نجد لنوقف الوهابيين عند حدهم ونضع أيدينا على الجزيرة العربية كلها، ثم فتحنا السودان، ثم جزيرة كريت، ثم اليونان، ثم اجتاحت جيوشنا بلاد الشام ودخلت عكا التى عجز عن دخولها بونابرت وتقدمت فى آسيا الصغرى حتى هددت السلطان العثمانى فى عاصمته استامبول؟ ما الذى حدث لننهض هذه النهضة الأسطورية؟ الجواب هو أن ما حدث فى القرن التاسع عشر بعد الميلاد بقيادة محمد على هو بالضبط ماحدث فى القرن السادس عشر قبل الميلاد بقيادة أحمس، فالفضل الأول يرجع للشعب الذى تصدى للغزاة قبل أن يتصدى لهم العسكريون المحترفون، يقول الجبرتى وهو يتحدث عما قام به أهل القاهرة ليحصنوا مدينتهم فى وجه الانجليز إذا فكر هؤلاء فى مهاجمتها: «وشرعوا فى حفر الخندق المذكور ووزعوا حفره على مياسير الناس وأهل الوكائل والخانات والتجار وأرباب الحرف والروزنامجى وجعلوا على البعض أجرة مائة رجل من الفعلة وعلى البعض أجرة خمسين وعشرين وكذلك أهل بولاق ونصارى ديوان المكس (الجمرك) والنصارى والأروام والشوام والأقباط واشتروا المقاطف والغلقان والفؤوس والقزم وآلات الحفر وشرعوا فى بناء حائط مستدير بأسفل تل قلعة السبتية».

هؤلاء الذين تصدوا للانجليز وانتصروا عليهم هم أنفسهم الذين تصدوا للهكسوس وانتصروا عليهم. والفضل الأول إذن يرجع لهم وللقادة الذين التحموا بهم وفجروا طاقاتهم وخبراتهم الموروثة وحشدوها فى الطرق الصحيحة بالكيفية التى نهضت بها مصر وحققت ما حققته من انتصارات.

هذه النهضة التى تحققت فى ميادين القتال لم تكن مجرد نهضة عسكرية، وإنما كانت نهضة وطنية شاملة، كانت علما وفنا، وكانت صناعة وزراعة وقوانين ومؤسسات انتقلت بها مصر من عصر إلى عصر آخر.

يكفى أن نعرف أن عدد أفراد الجيش المصرى بلغ حوالى مائتى ألف جندى وضابط، فى الوقت الذى كان فيه عدد المصريين ثلاثة ملايين، أى أن نسبة الجيش إلى الشعب بلغت خمسة فى المائة وأكثر. فلو أردنا أن نبلغ هذه النسبة فى هذه الأيام كان علينا أن نجند خمسة ملايين. علينا أن نعرف هذا وأن نعرف بعد ذلك أن هذا الجيش كان مسلحا بأفضل وأحدث ما وصلت إليه الجيوش فى ذلك الوقت من أسلحة كان المصريون يصنعون معظمها. وأن نعرف أن السياسة التى اتبعها محمد على وحقق بها الاستقلال لمصر لم تقتصر على إخراج مصر من امبراطورية الأتراك العثمانيين، وإنما حررتها من وضعها الذى كانت فيه ولاية متخلفة فى إمبراطورية دينية متخلفة لتسترد استقلالها وتصبح دولة وطنية حديثة تفصل بين السياسة والدين. وهكذا سقطت الجزية التى كانت مفروضة على المسيحيين المصريين، وهكذا كفت السلطة عن التمييز الطائفى وأصبح على المصريين جميعا أن يؤدوا الخدمة العسكرية، لا فرق فى أداء هذا الواجب الوطنى بين مواطن ومواطن آخر.

وأنا مضطر لأن أتوقف هنا قبل أن أكمل حديثى عن معجزات النهضة. فإلى اللقاء فى مقالة الأربعاء القادم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف