جابر عصفور
كلية الآداب- جامعة القاهرة
ذهبت فى الأسبوع الماضى إلى جامعة القاهرة- وهى الجامعة التى لا أزال أنتسب إليها وأحلم بمستقبلها- لكى أحضر الاحتفال بتخريج الدفعة «87» من عمرها المديد.
وجرت وقائع الاحتفال فى قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة، وهى القاعة التى لا تزال تعد تحفة معمارية بكل معانى الكلمة، وجلست فى الصف الأول وسط زملائى من أبناء الجيل الذى تجاوز السبعين من عمره، وكنت أشعر بالفرح لأنى أجلس محاطا بزملائى الذين أصبحوا عواجيز مثلى، وكنت أرى على المنصة الجيل الجديد الذى يتولى عمادة الكلية ورئاسة الجامعة على السواء، ولم يكن رئيس الجامعة الدكتور جابر نصار حاضرا، كما توقعت، لأنه كان مسافرا إلى الخارج فى واحدة من المهمات التى يقوم بها، وكان حاضرا نيابة عنه نائبه الدكتور محمد عثمان الخشت، وهو من خريجى كلية الآداب فى الأساس، وواحد من تلامذتنا الذين وصلوا إلى أن يكونوا نوابا لرئيس للجامعة كما فعل زملاء له من تلامذة الجيل الذى أنتسب إليه، وتوالت الكلمات، أولها كلمة الدكتور معتز سيد عبد الله، عميد كلية الآداب، الذى وصف الكلية بأنها معقل الفكر المستنير، فهى التى قدمت للأمة العربية كلها قيم الاستنارة ومبادئها المقترنة بحرية البحث والتفكير، متمثلة فى رجالاتها وشوامخها العظام منذ عميد الأدب العربى طه حسين حتى اليوم، فقد كانت كلية الآداب دوما وستظل (إن شاء الله) فى مقدمة المؤسسات التعليمية الجديرة بالاحترام والتقدير، ليس فى مصر فحسب، ولكن على المستويين العربى والإقليمى. وختم العميد كلمته بأن عبر عن خالص التقدير والامتنان لأعلام الكلية وروادها وأساتذتها الأجلاء الذين أعطوا فأجزلوا العطاء على مر سنوات طويلة، فكانوا وظلوا رموزا محترمة فى كل أرجاء المجتمع، وتقلدوا أعلى المناصب فى المجتمع. ولم ينس أن يعبر عن تقديره للأساتذة والعلماء الذين رفعوا اسم الكلية خفاقا فى مختلف المحافل المحلية والإقليمية والدولية بحصولهم على أرفع الجوائز التى تشرف بهم، ابتداء من جائزة نوبل وانتهاء بجوائز الجامعة.
وقد استمعت إلى كلمات وكيل الكلية لشؤون التعليم والطلاب الدكتور الحسينى محمد عبد المنعم والدكتورة لبنى عبد التواب يوسف ابنة صديقى المرحوم الأستاذ عبد التواب يوسف الذى صدمنى خبر وفاته، فقد كان قيمة وقامة بحق. وأخيرا الدكتور أحمد الشربينى السيد، وكيل الكلية لخدمة المجتمع. كما ألقى كلمة المكرمين تلميذى النبيه الدكتور عبد الله التطاوى، وتتابعت بعد ذلك الكلمات. وطوال التكريم للأساتذة الذين شرفت بالتدريس لبعضهم، كانت ذاكرتى تسترجع ذكرياتى الشخصية فى كلية الآداب منذ أن دخلتها طالبا فى سبتمبر 1961، قادما من مدينة المحلة الكبرى، حالما بأن أكون مثل طه حسين الذى فتننى وأوقعنى فى غوايته، وبضرورة التأسى به فى مجرى حياتى. وبالفعل كنت قد قرأت أغلب كتب طه حسين قبل أن أدخل الجامعة، وقرأت كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» أكثر من مرة على امتداد الأعوام التى وصلت ما بين العام الأول لدخولى الجامعة والأعوام العديدة التى مرت بعد ذلك والتى تجاوز نصف قرن أو يزيد. ولا أزال أحفظ عن ظهر قلب ما يذكره فى هذا الكتاب من أقوال صارت جزءا من تكوينى الفكرى والثقافى. ومن هذه الأقوال التى لا أنساها إلى اليوم قوله: «ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين، ووحدة اللغة، لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية ولا قواما لتكوين الدول». أو قوله بعد ذلك: «فالمسلمون... قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو: أن السياسة شىء والدين شىء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوم على شىء آخر». وتساءلت بينى وبين نفسى كم يا ترى من هذا الحشد الذى يتغنى باسم طه حسين ويفخر به يؤمن فعلا بكلماته وأفكاره، وهكذا سرحت فى تذكر معارك طه حسين فى الجامعة وبالجامعة لتأكيد المبادئ التى يؤمن بها، وهى مبادئ خمسة، أولاها: الحرية، وثانيها: العدل الاجتماعى، وثالثها: الإيمان بمبدأ التطور، ورابعها: الإيمان بوحدة الإنسانية، وخامسها: الإيمان بأن مستقبل مصر مرهون بالثقافة، وأنه لا تقدم لمصر إذا لم تعتن بثقافتها وما يستلزمه الإيمان بالثقافة من أهمية التعليم وتطويره بما يساعد قاطرة الأمة على الانطلاق نحو المستقبل الواعد.
ولقد كان طه حسين مؤمنا أشد الإيمان بالاستنارة ومواجهة قوى الظلام، ولذلك دخل فى معارك ضارية بشجاعة لا نظير لها، ولا مثال لها الآن، سواء فى كتبه أو مقالاته التى لم تكن تخشى فى الحق لومة لائم أو بطش سلطة سياسية مستبدة أو تعصب رجال دين يأخذون بقشور الخطاب الدينى دون جوهره السليم. ولذلك كان طه حسين يؤمن بأن الجامعة ليست مجرد معاهد للتدريس أو لتخريج الطلاب وإنما هى معاهد لنشر الاستنارة وأفكار الحرية والعدل والتقدم بين أبنائها، ولذلك يقول: «تعودنا أن ننظر إلى الجامعة ومعاهد العلم بعامة، على أنها مدارس يدرس فيها العلم... وقد آن لنا أن نعتقد، بل أن نستيقن، أن معاهد العلم ليست مدارس فحسب ولكنها- قبل كل شىء وبعد كل شىء- بيئات للثقافة بأوسع معانيها وللحضارة بأوسع معانيها أيضا». وعلى هذا الأساس يصوغ طه حسين تصوره للجامعة الحقيقية مؤكدا: «أن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفا، بل يعنيه أن يكون مصدرا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرا، بل يعنيه أن يكون منميا للحضارة. فإذا قصرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها!. وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذى تقوم فيه والإنسانية التى تعمل لها، وإنما هى مصنع من المصانع يعد للإنسانية طائفة من العلماء ومن رجال العلم، محدودة آمالهم، محدودة قدراتهم على الخير والإصلاح. وينتج عن هذا أمران خطيران: أحدهما أن الجامعة يجب أن تكون مستقر الثقافة العميقة العامة لا بالقياس إلى نفسها فحسب، بل بالقياس إلى غيرها من البيئات أيضا... والأمر الثانى أن الجامعة يجب أن تكون مستقر الحضارة الراقية الممتازة التى لا تظهر آثارها فى الإنتاج العلمى والعملى وحدهما، وإنما تظهر قبل كل شىء فى هذه الصيغة النقية الصافية التى تقوم فيها الصلات بين الناس على المودة الشائعة والاحترام المشترك والإيمان بالواجب قبل الإيمان بالحق وتقدير ما لغيرك عليك قبل أن تقدر ما لك على غيرك، ثم فى إكبار النفس والارتفاع بها عن الصغائر وتنزيهها عن الدنيات، ثم فى هذا الذوق المهذب المصفى الذى يحس الجمال ويسمو إليه ويحس القبح فينأى عنه».
هذه هى المبادئ الأساسية التى تصور طه حسين أن تكون عليها الجامعة فى علاقتها بالمجتمع، ولقد شاء فساد الحياة السياسية فى عهد السادات أن تتحول الجامعة إلى مضارب للجهالة وساحات للإظلام، يرتع فيها الإخوان المسلمون وينشرون أفكارهم المظلمة ويسعون إلى تديين الجامعة وتديين الحياة المصرية كلها، وقد نجحوا فى ذلك نجاحا ترك آثاره جروحا عميقة فى جسد الجامعة لم تبرأ منها بعد. ولكن ها هى كلية الآداب تستعيد ميراث طه حسين. وأرى الجالسين على المنصة فى قاعة الاحتفالات يكررون كلمة الاستنارة كما لو كانوا يفخرون بها ويكررون اسم طه حسين كما لو كانوا يفخرون بالانتساب إليه. وها هى قاعة الاحتفالات الكبرى التى كنت أجلس فى صفها الأول فرحا بأن أرى تلامذتى وتلامذة زملائى يؤكدون بعض المعانى التى قصد إليها جدهم الأكبر طه حسين. وها هى جامعة القاهرة، تحت رئاسة جابر نصار الشجاع والمستنير فى آن، تحظر التدريس على الأستاذات المنتقبات، وتؤكد الاستنارة فى الندوات التى تفتح أبواب قاعة الاحتفالات لتسهم فى ترسيخ الهوية الوطنية ونشر الثقافة الوطنية والوعى بها، وتأكيد القيم الإنسانية الرفيعة، والمشاركة فى صياغة مستقبل المعرفة والدرس البحثى فى مجالات اللغات والآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية، بهدف الوصول بالجامعة إلى الوضع الذى يليق بها وبإسهامها فى صناعة المستقبل بحيث تكون الجامعة بيئات للثقافة بأوسع معانيها ومستقرا للثقافة العميقة العامة لا بالقياس إلى نفسها فحسب، بل بالقياس إلى غيرها من البيئات فى المجتمع المصرى كله والعربى على السواء. وجلست أحلم بمستقبل الجامعة الذى كان ورديا حين دخلتها فى سبتمبر 1961 فظل كذلك رغم طردى منها فى سبتمبر 1981. وها أنذا يعاودنى الحلم متمنيا أن أرى جامعة القاهرة على الصورة التى رأيتها فى جامعات العالم المتقدم مثل هارﭬارد وغيرها من الجامعات التى ذهبت للتدريس فيها. فهل يتحقق حلمى؟! أدعو الله أن يتحقق هذا الحلم على أيدى الشباب الصغار من الذين كانوا يملؤون قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، يملؤهم الحلم والأمل كما كان يملؤنى الحلم والأمل فى سبتمبر 1961.