نصف الدنيا
نوال مصطفى
الصفعة المدوية
تجلس «سارة» لتحكي لوالدها «أحمد» تفاصيل الرحلة التي تنظمها جماعة «بُكرة» بالكلية للأقصر وأسوان.. ينصت «أحمد» باهتمام لكلام ابنته بينما يكمل إفطاره ويشرب قهوته الصباحية فى حديقة فيلته بالشيخ زايد.

المكان الأثير نفسه الذى طالما أحبته «شهد».. كانت تجلس فيه كل صباح تشرب قهوتها وتتناول الكرواسون، ففي هذا الركن من حديقة الفيلا وضعت «شهد» بصمتها الخاصة: أريكة متحركة في الضلع المواجه لطقم المقاعد والمنضدة «البامبو» سقيفة من الخوص والخيرزان مصمَّمة بذوقٍ عالٍ، تحتوى الركن بظل حنون، وتجعل منه موطنًا للنسمات الباردة المنعشة الجميلة.

تخترق «فاتن» الجلسة الحميمة التي جمعت بين الأب وابنته بجملة فجة، وصوت يخاصم الحياء، ونظرة غيرة تخترق الأجساد:

- إيه يا حبيبتي.. إنت موراكيش جامعة ولا إيه؟

تنظر إليها «سارة» في حنق دون أن تنبس بكلمة، ثم تنظر إلى والدها.. يلاحظ «أحمد» هذا الاحتقان الواضح بينهما، فيحاول تهدئة الموقف بذكاء.. قائلاً:

- «سارة» بتحكي لي عن رحلة مع الجامعة..إحنا فعلاً اتأخرنا.. يلا يا «سارة» علشان أوصلك الكلية فى طريقى.

تزداد الغيرة اشتعالاً في عينيْ «فاتن» فتنطلق مدافعها اللفظية السوقية.. تحرك يديها بطريقة بذيئة، وتقول:

- آه بقى ما أنا بنت البطة السوداء، أقعد لوحدى طول النهار في الفيلا أكلم نفسى.. أو أكلم الحيطان.

يحاول «أحمد» تهدئتها.. بينما يشعر بالحرج الشديد في وجود ابنته «سارة».. يقول بصوتٍ متقطعٍ من شدة الارتباك:

- اهدى بس يا «فاتن».. آخر الأسبوع ده حنروح «فايد» وحنقضي هناك يومين نغيّر جو، وإن شاء الله تنبسطي هناك خالص.

تهتز أجزاء جسدها كله بحركة عصبية انفعالية.. ثم تقول:

- بصراحة كده أنا مخنوقة.. أقعد طول النهار لوحدي زي قرد قطع.. في الصحراء اللي مفيهاش بني آدمين دي.. أنا طول عمري أحب الناس.. أحب الدوشة.. لكن الهدوء بتاعكو ده.. موت.. موت والله العظيم.

تشعر «سارة» بالنشوة والشماتة في زوجة أبيها، فها هي تختنق، وتكاد تصرخ طالبةً الخلاص من هذا المكان الأنيق، البارد كما تحسه هي وتشعر به.. لقد خاصمت أمها لكنها في قرارة نفسها تحبها، وتفتقدها بشدة، وتحلم باليوم الذى تعود فيه المياه إلى مجاريها.. وترى أمها «شهد» تضىء الفيلا بنورها وروحها.

تحاول بخبثٍ ودهاءٍ أن تزيد من اشتعال «فاتن».. فتقول:

- وليه متسليش نفسك يا طنط بالقراءة، عندنا مكتبة كبيرة أوي، مامي كانت دايمًا بتقضي ساعات طويلة من يومها بين كتبها.

تنفجر «فاتن» بعدما تفقد قدرتها على التحكُّم فى نفسها، فتنهال على «سارة» بوابل من الردح السوقي المبتذل:

- خلي القراية والثقافة ليكي انتِ يا حبة عيني، وللمحروسة أمك.. ما هي القراية دي اللي خلت أبوكي يزهق ويدور على ست.. أنثى يعنى.. مش راجل زيها زيه.

تجلجل ضحكات «سارة» المتتالية بصورةٍ هيستيريةٍ، كأنها تشاهد مشهدًا كوميديًّا مضحكًا.. وهي ترى حركات جسد زوجة أبيها التي تفوح بالابتذال.. تضحك «سارة» وتضحك.. ومع كل ضحكة تلقى إلى نيران «فاتن» المشتعلة بقطع من الوقود تزداد معها نيران غضبها اشتعالاً.

يقف «أحمد» حائرًا.. صامتًا.. مدهوشًا من تطور الموقف بهذه السرعة وهذه الصورة.. وفجأة يخترق المشهد صفعة مدوية، ترتطم كف يد «فاتن» بوجه «سارة» بشدة.. ترتج الأرض تحت أقدام الجميع.. كأنه زلزال هادر أطاح بهم، وباللحظة التى احتواها الغيم، تتوقف ضحكات «سارة» الهيسترية.. تمتلئ عيناها بالدموع الصامتة.. وفجأة تقع على الأرض مغشيا عليها .

***

كان ضوء الفجر يتهادى برشاقة مخترقًا ظلام الليل، عندما فتحت «سارة» عينيها بصعوبة، تحاول أن تتبين الأمر.. أين هي؟ ماذا حدث؟ ما هذا السرير الذي تنام عليه الآن.. إنه ليس سريرها، وهذه النافذة المسدل عليها ستارة داكنة.. إنها ليست ستارة نافذتها الوردية المطعمة برسوم دقيقة من اللون نفسه.. أين هي؟

تنتبه إلى صوت باب الغرفة يُفتح، وتدخل منه ممرضة في الثياب المعتادة لهن.. تسرع إليها عندما تلمح عينيها مفتوحتين.. تقترب منها، وتمسك كفها الصغيرة بحنان.. وتقول:

- حمدا لله على السلامة يا آنسة «سارة».. أخبارك إيه دلوقتي؟

بدهشةٍ شديدةٍ.. وذهول تسأل «سارة» الممرضة:

- أنا فين؟ إيه اللى حصل لي؟ أنا عملت حادثة؟ إيه اللي حصل.. أرجوكِ.. قولي لي.

تربت الممرضة «هدى» على يدها محاولة طمأنتها.. وتقول:

- انتِ كُنْتِ تعبانة شويه، ودلوقتي الحمد لله بقيتِ كويسة خالص، والدكتور «أحمد» بنفسه حيدخلك دلوقتي.. وحيكلمك بنفسه.

- الدكتور «أحمد خيري»؟ تقصدي بابا؟

- لا.. الدكتور أحمد عكاشة.. انتِ يا آنسة في المنتجع الطبى للدكتور أحمد عكاشة.

- أنا هنا من إمتى؟

- من 3 أيام.

- وفين ماما؟ ماما عرفت؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف