عبد الفتاح ماضى
نكبة فلسطين والنكبة الأكبر
يمثل يوم الخامس عشر من مايو من كل عام ذكرى حزينة لكل عربي ولكل مسلم ولكل أحرار العالم، هي نكبة فلسطين وقيام “دولة” أبارتهيد عنصري على أساس الدين هناك.
لكن النكبة الأكبر في نظري هي ما تم خلال عقود طويلة من إستبداد الحكومات العربية من إنسحاق الحكومات العربية أمام هذا الكيان وتراجع الوعي بصراعنا الوجودي معه في الأساس. لقد غُيبت أبجديات الصراع عن أجيال من العرب، بل وفتحت المنابر الإعلامية والثقافية لمثقفين إنهزاميين راحو يرددون، بوعي أو بلا وعي، المغالطات والأساطير التي قام عليها هذا الكيان.
ولو عرف العرب حجم الدراسات والكتب التي تَدْرس وتُخطط وتستهدف اخضاع العرب شعوبا وحكومات للإرداة الإسرائيلية والتي تنشر علانية في مواقع المراكز البحثية الإسرائيلية أو التي تعلن في المؤتمرات العلمية هناك لأدركوا حجم الكارثة التي وصلوا لها على يد حكامهم.
هذه “الدولة” لم تنشأ كغيرها من الدول نشأة طبيعية، فهي كيان استعماري وقوة الإحتلال الوحيدة في في عالمنا المعاصر، وهي ليست واحة الديمقراطية الوحيدة وإنما كيان عنصري يشرعن التمييز على أساس الدين واستهداف المدنين العزل وسيارات الإسعاف والتعذيب، ووصل الأمر إلى حد إطلاق الكلاب البوليسية على الأسرى العزل بما في ذلك الأطفال والنساء.
منذ النكبة وحتى اليوم، لم تستطع المنظومة الحقوقية للجماعة الدولية وكل مبادئ القانوني الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية ذات الصلة ردع هذا الكيان الإستعماري لسببين أساسيين على الأقل. الأول ارتباط عملية الردع بإرادة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة. وهذا المجلس أداة طيعة للدول الكبرى (التي تمتلك حق الفيتو) وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تحتضن إسرائيل ولا تستطيع الحكومات الأمريكية اغضابها نظرا لطبيعة النظام السياسي الأمريكي ذاته وسطوة اللوبي الصهيوني هناك..
أما السبب الثاني فهو ضعف الحكومات العربية. فلعقود بعد النكبة، استخدمت حكومات المنطقة قضية فلسطين لترسيخ الدولة القمعية والبوليسية على أساس أنه لا صوت يعلوا على صوت المعركة. ثم في مرحلة لاحقة حَوّل معظم الحكام مهام جيوشهم إلى حراسة أنظمتهم الإستبدادية والنخب المنتفعة والمتحالفة معهم أو إلى أداة قمع لشعوبهم إذا ما ثاروا من أجل الكرامة والحرية والعدالة.
لقد ساهم الحكام العرب في نكبة شعب فلسطين عندما رموا الفتات من العون الاقتصادي للشعب الفلسطيني وتركوه يعاني تحت الحصار داخل فلسطين المحتلة وفي المخيمات، بينما يتم إيداع البلايين من الاحتياطات النقدية في البنوك الغربية أو يتم استخدام الثروات في شراء الولاءات لترسيخ الأنظمة الحاكمة أو في مشروعات اقتصادية غير انتاجية أبقت على الفجوات الهائلة بين الطبقات.
ساهم الحكام العرب في نكبة شعب فلسطين عندما فرّطوا في أبجديات هويتهم العربية والإسلامية الجامعة التي كانت كفيلة بإنشاء تحالف قوي يصد المعتدين ويحقق مصالح الشعوب، وعندما أهدروا كل أدوات التأثير الناعمة من إعلام وثقافة وتعليم وفن، وعندما فرّغوا جامعاتهم ومدارسهم من أدوارها الأصلية لتتحول لآلات لتفريغ أشباه المتعلمين الغافلين عن تهديدات الإسرائيليين لأبجديات أمنهم القومي، وعندما فُرّغت البرامج التعليمية من مقررات دراسية متخصصة عن الصراع في المنطقة وعن الشأن الإسرائيلي الداخلي.
وبسبب الحكومات العربية كان الإختراق المخابراتي الإسرائيلي لكل الدول العربية تقريبا، الذي لم يميز بين الدول التي وقعت ما تظنه “سلاما” مع الإسرائيليين والتي لم توقع، فكل الدول العربية يُنظر لها باعتبارها “عدوا”، كما أن هذا الاختراق يتم الحديث عنه علنا.
ففي نوفمبر 2010 كشف الجنرال عاموس يدلين أثناء تسليمه مهام رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية أن الاستخبارات الإسرائيلية نجحت في اختراق كل الدول العربية الرئيسية، وقال حرفيا (دون أن نسمع أي رد أو تعليق من أي مسؤول عربي):
“قد تقدمنا إلى الأمام كثيرًا في نشر شبكات التجسس في كل من ليبيا وتونس والمغرب، والتي أصبح فيها كل شيء في متناول أيدينا، وهي قادرة على التأثير السلبي أو الإيجابي في مجمل أمور هذه البلاد. أما في مصر، الملعب الأكبر لنشاطاتنا، فإن العمل تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979، فلقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً، ومنقسمة إلى أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر… أما حركة حماس فإن الضربات يجب أن تتلاحق عليها في الداخل والخارج، فحماس خطر شديد على الدولة اليهودية، إنها تستنهض المنظومة الإسلامية في البلاد العربية والعالم ضدنا”.
ولهذا كان طبيعيا أن يناصب الكيان الإسرائيلي الثورات العربية العداء ويعتبرها خطرا وجوديا عليها لأنها ستؤدي إلى ظهور حكومات تعمل لصالح شعوبها لأول مرة.
وبعد 30 يونيو 2013 ظهرت تصريحات كثيرة لمسؤولين وجنرالات إسرائيليين يدعمون صراحة نظام ما بعد 30 يونيو، كما صدرت عن مراكز بحوث إسرائيلية دراسات تدعو إسرائيل والغرب إلى دعم النظام المصري في حربه ضد الإسلاميين وضد الثورة باعتبار أن هذا الأمر مسألة “أمن قومي إسرائيلي”.
وفي سابقة لم تحدث من قبل (على الأقل علنا) صار معروفا أن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية المعروفة إختصارا باسم إيباك (AIPAC) عملت لصالح “إسرائيل” ومصر معا حيث ساهمت في الضغط الذي أدى إلى رفع تجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر بعد 30 يونيو، بعد أن ظلت منذ نشأتها عام 1953 تعمل لمصلحة الإسرائيليين وضد المصالح العربية.
هل حان الوقت لأن يمثل هذا الدعم الإسرائيلي الحاسم والقوي لقوى الثورة المضادة في المنطقة العربية دافعا قويا لعودة الإهتمام بكافة الأبعاد ذات الصلة بهذا الصراع وظهور جيل جديد من الباحثين والمتخصصين القادرين على المساهمة في إيقاظ وعي قطاعات واسعة من الشعوب ووضع رؤى وإستراتيجيات لمواجهة هذا المشروع الإستعماري؟