البديل
أيمن عامر
عن شجون القمح والزراعة عموما
أيام كنت أعمل بيديَّ في الأرض رأيتُ الفدان ينتج 14 قنطاراً من القطن، ثم مرَّت بنا أيام سود رأيتُ فيها الفلاح المصري يحرق قطنه في الحقل لأن المحصول لن يكفي أُجرة جمعه من الأرض.

رأيت لوزات القطن متفتحة نيِّرة تزهو بحملها من القطن وتنادي من يجمعه.. مساحات شاسعة من البياض الناصع المبهج والخير العميم ينتظره الناس ويأملون به تفريج أزماتهم وتحسين معيشتهم.
ولأمر ما، مازلنا لا نعرفه، اتُّخذ قرار بتغيير التقاوي، أو البذور، التي لم نغيِّرها منذ عرفت مصر زراعة القطن. ورأينا بعيوننا نتيجة فعل السوء هذا، اللوزات التي كانت نيِّرة فرحة تغضَّنت وانكمشت على نفسها وماتت على ما بداخلها من قطن متحجِّر يمرح فيه الدود.

وبعدما كان الناس يسارعون للعمل في جمع القطن لسهولته وفرحته أخذوا يتراجعون، فاللوزة المدوّدة الميتة على ما فيها من قطن تحتاج مجهوداً لفتحها وإخراج ما فيها من بواقي قطن، حتى كانت أصابع الناس تُجرَّح. كره الناس الجمع والقطن، وصمتت الأغنيات، واجتاحت الكآبة النفوس، وأصيب بعض الفلاحين بالشلل قهراً.

لم يعد الفدان ينتج حتى 4 قناطير.
والغريب أن أحداً لم يهتم أو يتراجع ويقرر الرجوع للحق والخير، أي البذرة القديمة.
والأغرب أن نسمع أن بذرتنا المصرية الأصيلة تُزرع في إسرائيل.

وما جرى في القطن جرى شبيهُه في الأرز وفي الذرة. تم تغيير «الرز» البلدي إلى «الرز» الفلبيني أو «السلالة» بحجة أنه أسهل في الزرع والحصاد، ويا لهم من فجَرة كذَبة. واكتشف الناس الخديعة بعد فوات الأوان، حتى إن منهم لمن يحصد محصوله من «الرز» الفلبيني أو السلالة ثم يغيِّره بالبلدي ضريبةً بضريبةٍ أو طناً بطنٍّ دافعاً 500 جنيه فرق جودة. والذين يتذوقون ما يأكلون يعرفون الفرق، يعرفون أن للأرز البلدي طعماً ورائحة، وأنه مهما يبيت يعود، بمجرد تسخينه، طيباً طازجاً أو كالطازج.

كان الفلاح المصري يأخذ بذوره أو تقاويه من محصوله الذي يزرعه منذ آلاف السنين، يختار أفضل نتاجه، وكله جيد، ليجعل منه بذوراً أو تقاوي للموسم التالي.. يصعد إلى سطح بيته أو يذهب إلى مخزنه ليختار أفضل ما يرى من «أكواز» الذرة أو حبوب القمح، وبمجرد دفنها في الأرض السمراء المكوَّنة من طمي «حابي» أو النيل العظيم تنبت ويخرج الزرع أخضر يانعاً بهجةً للنفوس وغذاءً للأجساد. لم يكن الفلاح يمد يده لأحد يستجديه بذوره أو تقاويه، إلى أن فعلت الحكومة ذلك، باعت له تقاوي ملعونة إن زرعت سنة لا تصلح للسنة التالية على خلاف تقاويه القديمة التي كانت صالحة للزراعة إلى الأبد. وإني لأراهن أننا لو أخذنا حبوب القمح الموضوعة بجوار مومياء من مقبرة مصرية قديمة وزرعناها ستُنبت وتُنتج خيراً.

في زيارتي الأخيرة للقرية التي نشأتُ فيها سألتُ العائلة عن قمحنا القديم (نسميه الغلَّة، والغلَّة لغةً هي مجمل ما تنتجه الأرض من حبوب، وكأن المصري يرى القمح هو كل الحبوب)، فعرفتُ أن الغلَّة «الجبس» القديمة لم تعد موجودة وأنهم يشترون تقاويهم من الجمعية.. فتأمل.

الغلَّة الجبس معروفة ببياض دقيقها الناصع وعِرْقه القوي الشديد (أي تماسكه وفرده ومطِّه إلى أبعد الحدود عند العجين بفعل مادة الجيلاتونين) حتى إن الفلاحة المصرية كانت تخلط كل كيلة من دقيق القمح بكيلتين من دقيق الذرة معدوم العرْق كي تخفف «عراقة» دقيق القمح وتستطيع خبزه، وإلا فإن الخبَّازة لن تستطيع التعامل معه وستتركها وتمشي.. كان الدقيق كأنه الصمغ.

تم التخلي عن هذه البذرة التي نزرعها منذ عرفت مصر القديمة الزراعة، وصدَّروا للفلاح بذوراً أخرى لا تُزرع إلا مرة واحدة ولا يؤخذ منها «تقاوي»، فيما يسمى في الخراب العالمي «بذور الجيل الواحد»، كي تبقى يده ممدودة لهم باستمرار، وإذا قرروا عدم منحه البذور فلن يجد ما يزرعه، سنزرع الطوب ونأكل الطوب، أو نأكل ما يقدمونه لنا «وفي حنكنا جزمة قديمة».

هذه الغلَّة الجديدة ضعيفة «العِرْق» جداً كأنها دقيق الذرة، وبعد أن كنا نخبز من قمحنا القديم الكعك والبسكوت والفطير أصبح القمح الجديد لا يصلح لذلك فيشتري الفلاح الدقيق «الفينو» للفطير والبسكوت، ولابد أن يكون «درجة أولى».

والنكتة السوداء أن وزارة الزراعة تقر وتعترف بأن القمح المستورد ضعيف العرْق وأنه لابد من خلطه بالدقيق المصري كي يصلح للخبيز.. ففيمَ كان كل هذا؟!

تتخلى عن قمحك القديم، وتزرع بذوراً لا تعرف شيئاً عنها، ثم تستورد القمح بالعملة الصعبة، ثم تكتشف ضعفه فتبحث عن القمح المحلي لتخلطه به فتجد أنك لم تعد تزرعه، فتستورد قمحاً آخر شديد العرْق لتخلطه به، وبالعملة الصعبة مرة ثانية، ولا تسأل نفسك: لماذا تخليت عن بذوري القديمة الأصيلة الأجود والأفضل والأرخص؟

المؤامرة ليست في السياسة فقط، وربما ليست في السياسة أصلاً، وإنما هي في الاقتصاد، وتحديداً في الزراعة، في «أقوات الناس»، فانتبهوا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف