جمال الجمل
حديث الوردة «استراحة لغسيل الروح»
«1»
انظر إلى ذلك الجبل الكبير.. إنه ضخم ومهول ومحفوف بالمخاطر، ففي مغاراته تختبئ ضوارٍ مفترسة وحيات قاتلة، وفي قمته تتراقص البراكين قبل أن تقذف بالحمم الملتهبة في أي لحظة.
«2»
انظر أيضًا إلى تلك الزهرة الصغيرة هناك، في السفح الراقد تحت ذراع الجبل.. إنها متفتحة برغم القحط، وألوانها مبهجة تتحدى الأصفر الرملي وألوان الصخور المعتمة.
«3»
تأكد يا صديقي أن ضخامة الجبل، ومخاطر الموت والهلاك التي تحيط به، لم تستطع أن تلغي وجود الزهرة؟ فلم تفقد اسمها ولا تاريخها، لم تفقد صفاتها المبهجة، ولم تتنازل عن رقتها وإشراقها لتقلد الجبل في ضخامته وصفاته العنيفة الخطرة.
«4»
ليكن إذن ما يكون، فقد اخترت أن أكون الزهرة. دفاعي عن الحرية والعدل، والقيم الإنسانية النبيلة لايحتاج دبابة ولا زجاجة مولوتوف، تكفيني صفات الوردة وتاريخ الوردة، يكفيني حبي للخير، وانتمائي لمصالح أهلي الطيبين في أنحاء الوطن، تكفيني كلمة الحق لأحارب الوحوش بالشمس وليس بالظلام، بأسلوب البشر وليس بنفس أساليب الوحوش المفترسة، لن أستبدل جناح الفراشة بأنياب الضواري، لن أستبدل عبير الورود برائحة الـTNT، لن استبدل العقل بالعنف ولا الخير بالبشر، ولن أتنازل عن مطالب البسطاء بحياة أفضل مما يفرضه علينا اللصوص والفاسدون وسماسرة الأوطان.
«5»
سؤال السياسة في مصر تم اختزاله «لأسباب شريرة» في دائرة الصراع حول السلطة، وصار قصر الحكم، هو أكبر «قصور» و«تقصير» في الحقوق المشروعة للوطن وللناس، لهذا يجب أن ننتبه لمن يسرقون منا الحياة ويحشروننا في قفص محكم كالدجاج، نتصارع معا من أجل خطوة للحركة، ومن أجل فرصة أفضل لالتقاط حبة قمح أو قطعة طعام، الحياة أوسع من عناوين الصفحات الأولى في الصحف التي تنكفئ على أخبار الحاكم وحاشيته، والحياة أهم من أن نهدرها في الطوابير الممتدة أمام دواوين المظالم، أو التماس العطف من الظالمين أنفسهم.. الحياة التي خسرناها، ليست هناك وراء تلك الأسوار العالية المحاطة بالسلاح وأبراج الحراسة، الحياة هنا بيننا.. داخل البيوت، في الحارات والشوارع، على المقاهي، في نقاشات مواقع التواصل، فلا تجعلوا تلك السياسة اللعينة تفسد حياتنا.
«6»
سألت نفسي عن تاريخ اليوم، ولما عرفت أننا على أبواب ليلة النصف من شعبان، رجعت بذاكرتي إلى السنين الخوالي، عندما كان جدي الحاج كامل يعلمني وأنا طفل صغير معاني كل شيء في الحياة، وتألمت لأننا في زحام التحرش السياسي والإنساني لم نعد نشعر بقيمة الأعياد ومواسم البركة، ومحطات غسيل الروح، تألمت لأنني لم أعد أسمع عبارة «كل سنة وانت طيب» بمثل ذلك الصفاء القديم، وتألمت أكثر لأنني أنا أيضًا لم أعد أقولها بمثل ذلك الصفاء القديم، فثمة شيء ما، بغيض وجاحد، يهاجم أجمل ما فينا، فيكسر الأمل في نفوسنا، ويجرح الكرامة والسكينة فينا، يعكر صفاء حياتنا، ويترك آثاره السيئة على مشاعرنا وأرواحنا، وأيضًا على الكلمة الطيبة التي كنا نستعين بها على مواجع الحياة.
«7»
لهذا قررت أن يكون هذا المقال بعيدًا عن صراعات السياسة، وأن تكون مناسبة النصف من شعبان هذا العام فرصة لتغيير قِبلة قلبي من العنف إلى الرحمة، ولتأكيد دفاعي عن الحرية في مواجهة القهر، ولاستمراري في التمسك بكلمة الحق مهما كانت مخاطر اطلاقها في وجه سلطانه جائر، وأنا لا أعني بذلك تقديس ليلة بعينها، ولا وقف الدعاء وتصويب الروح وتقوية النفس عن أيام بعينها، بل نفتش عن كل فرصة تصحح لنا مسيرتنا، وتدفعنا لمراجعة أنفسنا، والتماس الطريق الأفضل والأسلوب الأفضل، فاللهم أنعم علينا بقوة الحق وحسن اللفظ، بالإيمان الشديد والخلق اللين، وكل عام وأنتم طيبون أشداء على الظالمين رحماء بينكم.