الوطن
حسن ابو طالب
شباب حائر وقيم مدنية مفقودة
فى إطار التواصل بين الأجيال طلبت منى إحدى مؤسسات المجتمع المدنى المشهود لها بالانفتاح على كل فئات المجتمع تنظيم ورشة عمل لمدة يوم حول الشباب والقيم المدنية لمشاركين من أجيال مختلفة، ومنهم أكاديميون وباحثون ورجال دين مسلمون ومسيحيون وناشطون فى مجال المؤسسات الطوعية. وكما هو معروف فإن تعبير المدنية من التعبيرات التى يَكثُر بها الحديث منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، وقد وردت فى الدستور فى مجال وصف الدولة المصرية باعتبارها دولة مدنية ديمقراطية حديثة. وهو من الألفاظ التى تُمزج مع ألفاظ أخرى وينتج عن ذلك مفاهيم اصطلاحية تُقال أحياناً وكأنها معروفة للجميع، والأمر ليس كذلك، من قبيل القيم المدنية والدولة المدنية والتعليم المدنى. والشائع لدى بعض المصريين أن الدولة المدنية هى النقيض لكل من الدولة الدينية والدولة التى يحكمها العسكريون، ولذلك فهى مقبولة بشكل عام، ولكن دون دراية بالمعنى التفصيلى لهذا المفهوم.

ولما كان النقاش المطلوب يتعلق بالشباب، وجدت أن الأمر يتطلب تحديد مفهوم الشباب، وبعد الرجوع إلى المصادر المعرفية المناسبة، نجد عدة مداخل لتحديد معنى الشباب، منها مدخل الفئات العمرية، والمدخل النفسى الذى يركز على السمات النفسية التى تظهر فى فترة ما بعد البلوغ، والمدخل العضوى القائم على اكتمال المقاييس والمواصفات البيولوجية، والمدخل الذى يهتم باكتمال الجوانب السلوكية التى تميز فترات التغير التى يمر بها الإنسان وصولاً إلى مرحلة النضج العقلى والإنسانى. ورغم اختلاف هذه المداخل فهى تتوافق ضمنياً على أن الشباب هم من يشغلون الفئة العمرية ما بين الثامنة عشرة وحتى الخامسة والثلاثين بكل ما فيها من تحولات بيولوجية وسلوكية وإدراكية وإنسانية، وهى مرحلة النشاط الزائد والأحلام الكبرى والمغامرات والتنقلات الفكرية والسياسية، وبالتالى فهى مرحلة تتطلب عناية خاصة فى التعامل معها، بغرض إعدادهم لقيادة بلدهم والتفاعل البناء مع تحديات زمن قادم لا محالة استناداً إلى حكمة عربية تقول إن أولادنا خُلقوا لزمن غير زماننا.

أما موضوع القيم المدنية فهو محل توافق بين أنصار التيارات الليبرالية، ومفاده جملة القيم التى تعزز البناء الديمقراطى فى المجتمع، وتركز على أهمية دولة القانون والإيمان بالتعددية والتسامح مع الفكر الآخر والحرية فى السياسة أو فى العقيدة، مع ربط كل ذلك بالمواطنة بما فيها من مسئولية تجاه الوطن. وهى منظومة قيمية نشأت فى أوروبا، واستمر التنظير الفكرى والسياسى لها وصولاً إلى الدولة المدنية الحديثة، قرابة 350 عاماً؛ بداية من كتاب «الأمير» لميكيافللى منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادى، مروراً بكتابات فلاسفة التنوير، وهم جون بودان، أواسط القرن السادس عشر، وتوماس هوبز، بداية القرن السابع عشر، وباروخ إسبينوزا، أواخر القرن الثامن عشر، ثم جون لوك، أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر.

ونظرة تركيز عابرة على مفهومى الشباب والقيم المدنية والعلاقة بينهما يتضح أننا أمام تحدٍ كبير للغاية، فالقيم المدنية تبدو منظومة مثالية ولكنها لم تنبت فى أرضنا العربية أو المصرية بل نبتت فى أرض الغير، وهم الذين ضحوا من أجلها عبر أربعة قرون متصلة جرت فيها حروب وأهوال عظيمة، وكانت تصاحبها حوارات فكرية وفلسفية عظيمة الشأن. باختصار هناك حالة تشبع تاريخى وفكرى وسلوكى لدى الفرد الأوروبى بهذه القيم، تدعمه فى ذلك نظم تعليمية تجسد تلك القيم منذ الصغر، بحيث تصبح بمثابة عادة مجتمعية غير قابلة للنقاش. أما فى بلادنا ورغم أن فى تراثها الإسلامى حالة دستور المدنية فى زمن الرسول محمد، عليه الصلاة والسلام، بكل ما فيه من قيم عالية الشأن كالاعتراف بالتعددية الدينية وحق غير المسلمين أن يعبدوا الله كما يؤمنون، والمساواة بين المقيمين فى الدولة ومسئوليتهم المشتركة فى الدفاع عنها، وعدم الخيانة وتأييد الصلح مع الغير إن اتفق عليه تحقيقاً للمصلحة العامة، وهى تماثل فى جوهرها منظومة القيم المدنية الأوروبية، إلا أن تاريخ المسلمين يفتقد التعبير عن هذه المنظومة القيمية، بل كان مناقضاً لها فى كل ما نعرفه عن أداء الدول والإمبراطوريات الإسلامية المختلفة. وللأسف لا توجد لدينا حركة فكرية حقيقية تسعى إلى بناء نموذجنا القيمى العربى الإسلامى استناداً إلى مقاصد الشرع التى لا خلاف عليها والقيم الإسلامية العليا والمواقف والأحداث التاريخية المضيئة رغم قلتها. وحين يسعى البعض منا إلى إعادة إنتاج منظومات قيم نشأت فى أحضان ثقافات أخرى، ومع اعترافنا بما فيها من مبادئ مثالية وذات طابع إنسانى عام، نجد أنفسنا وقد فشلنا فى تسويق هذه الأفكار لدى مجتمعاتنا المحلية، ولذلك تظل هناك فجوة هائلة بين ما تقوله صفوة النخبة، وبين الأفكار السائدة لدى غالبية المجتمع من ناحية أخرى، ويدعم ذلك نظام تعليمى متخلف لا يرى فى الطالب إلا كونه أداة تسجيل لمعلومات بالية ودائمة التغير، ولا تمثل له فائدة تذكر لحياته العملية.

أما الشباب المصرى فشأنه شأن شريحة الشباب فى المجتمعات الأخرى، هو دائم البحث عن تحقيق أحلامه المشروعة ولكنه يرى أن الدولة والنظام السائد فيها مسئول مباشرة عن تحقيقها، ولا يهتم بانتشار القيم المدنية فى حد ذاتها ولكن بوجود وضع أو حالة عامة تسمح له بالتحرك تحقيقاً لمبدأ الحرية دون أن يقيده أحد أو شىء أو قانون، مناقضاً بذلك القيم المدنية وأساسها دولة القانون التى يُفترض أنها تحمى حريته وحرية غيره معاً. ومن ثم يظل الوضع المصرى معلقاً، فلا هو قانع بالقيم المدنية الواردة من خارج بيئته، ولا هو قادر على أن يشكل تجربته الخاصة وفق منظومة قيم يؤمن بها ويجسدها فى كل مناحى حياته، ويظل الشباب حائراً، يدفع بعضه ثمناً لشىء مخادع، وغالبيته تتفاعل بغير رضا عن الشأن العام. ولا يخلو حوار مع بعض الشباب من غضب وحيرة وعدم رضا، وحين يشير المرء إلى شىء إيجابى يفتح باب الأمل ولو بعد حين، يزداد عدم اليقين؛ لأنهم لا يعرفون كثيراً عن هذا الشىء الإيجابى ولا يجتهدون فى معرفته أصلاً، وفى كل الأحوال يرون أن المسئول أولاً وأخيراً هو النظام الذى يرونه يغلق كل الأبواب، وأنه لا يختلف كثيراً عن نظامين سابقين أسقطهما الشعب والجيش معاً. أما تحويل طاقاتهم وحيويتهم وطموحهم إلى فعل إيجابى فدونه الأعذار تلو الأعذار، ويبقى الجميع فى دائرة مغلقة يجب أن تُكسر فوراً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف